بقلم - د. محمود خليل
دخل «الحسين» الكوفة وهو لا يعلم شيئاً من الأخبار، ولا بما وقع من قتل مسلم بن عقيل على يد عبيد الله بن زياد، فلما علم بالأحداث التى تدفقت سريعاً أثناء مسيره إلى الكوفة، وشعر بتخاذل أهلها عنه، قال لمن معه: «خذلتنا شيعتنا، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف من غير حرج عليه»، فانصرف مَن حوله ولم يبق معه سوى أصحابه الذين قدموا معه من مكة.
وعسكر «الحسين» فى «كربلاء».
بدأت الموقعة غير المتكافئة سريعاً، وقاتل أصحاب «الحسين» بين يديه حتى تفانوا، ولم يبق معه أحد إلا سويد بن عمرو، وكان أول قتيل من أهل الحسين من بنى أبى طالب «على الأكبر بن الحسين بن على».
وأحيط بالحسين وهو عند فسطاطه ولم يبق معه أحد يحول بينهم وبينه، ثم حمل الرجال على «الحسين» من كل جانب وهو يجول فيهم بالسيف يميناً وشمالاً، وكلهم يرهب الإقدام على قتله، حتى نادى «شمر بن ذى الجوشن»: ويحكم ماذا تنتظرون بالرجل؟، فاقتلوه ثكلتكم أمهاتكم، فحملت الرجال من كل جانب على «الحسين»، وضربه «زرعة بن شريك» على كتفه اليسرى وضرب على عاتقه، ثم انصرفوا عنه، وهو ينوء ويكبو، ثم جاء إليه سنان بن أبى عمرو بن أنس النخعى فطعنه بالرمح فوقع، ثم نزل فحز رأسه.
قبل سويعات من النهاية، وقف «الحسين بن على» أمام باب خيمته فى كربلاء، وحيداً بعد أن انفض الناس من حوله، وقال عبارته الشهيرة: «الناس عبيد الدنيا. والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درت معايشهم، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون».
إنها العبارة التى لخصت فلسفة الرجل الذى خرج مدافعاً عن مستقبل أمة، وانتهى به الأمر إلى أن يقف وحيداً غريباً فوق أرض لا يعرفها، ليدفع حياته ثمناً لإيمانه بقضيته.
ومنذ لحظة استشهاده، بدأت المأساة الكبرى فى تاريخ المسلمين، التى ما زلنا نعانى من توابعها ونتائجها حتى اليوم، تلك المأساة التى بدأ فصلها الأول بتنازل الحسن بن على عن الخلافة لـ«معاوية»، خوفاً من إزهاق المزيد من أرواح المسلمين فى الصراع على الحكم، واعتبرها «معاوية» خطوة واجبة من أجل الصالح العام للدولة المسلمة التى لم يكن يستطيع أن ينهض بعبء حكمها آنذاك سوى شخصه.
وبعد أن مات «معاوية» لم يكن لـ«الحسين» أن يسكت على التحولات الخطيرة التى تقع خصوصاً مع أيلولة الحكم إلى «يزيد»، وهو يعلم من أمر الأخير ما يعلم، وكان يرى أن صالح المسلمين فى الدين والدنيا لن يستطيع أن ينهض به هذا الرجل، وقد شرع الكثيرون فى الاستسلام للأمر الواقع، لكن روح «الحسين» الثائرة أبت ذلك، حين قارنت بين طبيعة الحكم فى عهد الراشدين والذى استند فى الأساس إلى أحكام الدين، والتحول الانقلابى الذى يمكن أن يحدث فى نظام الحكم، إذا آل الأمر إلى «معاوية وآله»، حيث سيصبح لقوانين الدنيا وألاعيب السياسة وسيوف القهر الكلمة العليا فى الحياة.