بقلم - د. محمود خليل
كان أكثر ما يلفت أهل مكة إلى النبى صلى الله عليه وسلم فى شبابه هو ما تمتع به من استقامة خلق، وجدية فى العمل، وميل إلى التأمل فى الحياة والأحياء، وكان بهذه الخصال استثناء بين أفراد جيله. ومثل الجميع كان محمد يعيش إنساناً عادياً يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق.
الحياة الطبيعية التى عاشها محمد فى شبابه كانت السبب المباشر فى إحساس الدهشة الذى اعترى أهل مكة حين أخبرهم بأنه نبى مرسل من عند الله. فقد كان لديهم تصور أسطورى موروث عن آبائهم وأجدادهم بأن النبى لا يمكن أن يكون إنساناً عادياً مثل كل البشر يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق: «وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الْأَسْوَاقِ»، تصوروا أن النبى لا بد أن يصحبه ملك من السماء يكون معه نذيراً، أو يكون لديه القدرة على الصعود إلى السماء والتحدث إلى الملأ الأعلى، ثم الهبوط إلى الأرض، وأن يكون له قصر منيف يعيش فيه.
هذا التصور التخيلى أو الأسطورى الذى كان يتسكع فى أدمغة المكيين جعلهم يشعرون بالدهشة عندما أعلن محمد نبوته، فلم يتقبلوا فكرة أن يرسل الله إليهم إنساناً عادياً، كل ما يملكه فى الحياة هو الحكمة التى غذاها التأمل وطول النظر فى أحوالهم، والتى جعلته مؤهلاً لاختيار السماء كى يحمل رسالتها إلى الأرض.
وقد نص القرآن الكريم أن محمداً لم يكن بدعاً من الرسل: «قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِى مَا يُفْعَلُ بِى وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَىَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ»، وأكد أن كل الرسل كانوا مثل محمد يأكلون الطعام ويمشون فى الأسواق: «وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى الْأَسْوَاقِ».
لم يكن محمد أيضاً جزءاً من المركب الاقتصادى للمجتمع المكى، المتمثل فى التجار الأثرياء، مثل عثمان بن عفان أو عبدالرحمن بن عوف، أو جزءاً من طبقة الحكم فيها مثل عمرو بن هشام أو معاوية بن أبى سفيان، بل رجلاً يتمتع بمكانة أدبية فقط، نشأت عن انتمائه إلى بنى هاشم، من ناحية، وخلقه القويم من ناحية أخرى.
فيما عدا ذلك كان النبى مطالباً بالعمل حتى يجد قوت يومه، وحتى يساعد عمه أبا طالب الذى تكفل برعايته بعد وفاة جده، لذا فقد عمل برعى الغنم ثم فى التجارة، وظهرت مواهبه فى إدارة الأعمال حين شارك فى إدارة تجارة السيدة خديجة بنت خويلد.
عدم وجود محمد صلى الله عليه وسلم ضمن طبقة الحكم أو طبقة المال داخل المجتمع المكى مثل عاملاً ثانياً أصاب المكيين بالدهشة عندما أخبرهم بأنه رسول من عند الله. فقد تعجبوا من هذا الأمر كثيراً وقالوا كما يحكى القرآن الكريم: «وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ».
فالنص السماوى كان محل إعجاب وتصديق الكثيرين من أهل مكة، لكنهم تحفظوا على صاحبه، لأنه لم يكن واحداً من عظماء مكة أو الطائف، وذلك بمقاييسهم الخاصة للعظمة.لم يفهم الرافضون لنبوة محمد من أهل مكة أن للنبوة مقاييس عظمة مختلفة عن الزعامة.
ما دام هدفنا العام طويل الأجل متماشياً مع العقل، فمن الواجب أن تكون تصرفاتنا الجزئية قصيرة الأجل منسجمة مع هذا الهدف العام».فكل تعليقاتهم على النبى تدلل على أنهم كانوا يبحثون عن زعيم -بشروط خاصة- ينضوون تحت رايته. والأرجح أن أغلب من تبنوا هذا الطرح كانوا من بنى أمية الذين اعتبروا أن محمداً يبحث عن مُلك، وأن منافسيهم من بنى هاشم يريدون الزعامة على قريش، وقد ظلوا على هذا الدأب حتى فتح مكة، حين عاملهم محمد بأخلاق النبوة، وليس بالطرق التى اعتاد عليها الزعماء فى مثل هذه المواقف.وفى مقابل الرافضين ظهر من بين أهل مكة آحاد من البشر فهموا المعنى الحقيقى للنبوة فآمنوا بمحمد ورسالته، وعزروه ونصروه صلى الله عليه وسلم.