بقلم - د. محمود خليل
ظلت اللهجة العامية تتطور طيلة القرون التي تلت تسيدها الشارع المصري أواخر العصر الفاطمي، وكان الفضل في ذلك يعود إلى حالة الانفتاح التي شهدتها هذه البقعة من العالم، حيث كان صدرها رحباً لكل غريب، يفد من المغرب العربي، أو من الشام، أو من غيرهما.
مصر في العصرين العثماني والمملوكي كانت محطة أساسية من المحطات التي يتوجب على القاصد لبيت الله الحرام أن يمر بها، وخصوصاً حجاج المغرب، وما أكثر ما كان يقرر خلال رحلة العودة من مكة البقاء بأرضها الطيبة، والعيش والتجارة فيها. كما شكلت مصر مع كل من الشام ونجد والحجاز كتلة واحدة، أو قل دولة واحدة تخضع لسلطان المماليك، وللوالي العثماني بعد ذلك.
وتشهد واقعة التحقيق مع "سليمان الحلبي" بعد قيامه باغتيال القائد الثاني للحملة الفرنسية على مصر "كليبر" على طبيعة العامية المصرية أواخر القرن الـ18، والأثر الذي تركه الاحتكاك بالقبائل العربية والشوام عليها. وقد سجل عبد الرحمن الجبرتي تفاصيل وثيقة التحقيق مع "الحلبي" في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار".
يشير "الجبرتي" إلى أن الفرنسيين دونوا التحقيق في أوراق باللغات الثلاث: الفرنسية والتركية والعربية، وذكر أنه أعرض عن ذكر النسخة العربية لمدة من الزمن بسبب "ركاكة تركيبها لقصورهم في اللغة"، لكنه ضمنها الجزء الخامس من كتابه بعد ذلك لتبقى شاهدة على اللغة العامية المتداولة في ذلك الزمن.
ومما جاء في هذه الوثيقة على سبيل المثال عند وصف الإصابات التي لحقت بكليبر وأدت إلى مصرعه "جرح أوطى من الأول جنب السوة، وجرح في الخد اليمين". ووصف القبض على سليمان الحلبي: ""حضر ملازم ماسك بيده راجل من أهل البلد".
وفي التحقيقات سُئل "الحلبي": "هل راح صباح تاريخه الجيزة؟ فجاوب نعم وأنه كان قاصد ينشبك كاتب عند أحد ولكن ما قسم له نصيب" وسُئل: "هل يعرف حتة قماش خضرة التي باينة مقطوعة من لبسه وكانت انوجدت في المحل الذي انغدر فيه ساري عسكر فجاوب: بأن هذه ما هي تعلقه".
وفي وصف اللحظات التي سبقت قتله لكليبر جاء: "إنه كل يوم كان يتكلم معاهم في الشغل المذكور، وأنه أمس تاريخه قال لهم إنه رائح يقضي مقصوده ويقتل ساري عسكر وأنه توجه للجيزة حتى ينظر إن كان يطلع من يده، وأنه هناك قابل النواتية بتوع ساري عسكر فاستخبر عليه منهم إن كان يخرج برا فسألوه إيش طالب منه، فقال لهم إن مقصوده يتحدث معه، فقالوا له إنه كل ليلة ينزل جنينته، ثم صباح تاريخه شاف ساري عسكر معديا للمقياس، وبعده ماشي للمدينة، فتبعه لحين ما غدره".
هذا النص يؤشر إلى ثلاثة أمور: أولها عامية ذلك الزمان والتي لا تختلف عن عامية الوقت الذي نعيشه، وثانيها دخول بعض الألفاظ الشامية فيها: "إيش"، وثالثها هو لغة الكتابة الفصحعامية الغالبة على التحقيق، وهي لغة تجد لها مثيلاً في بعض الوثائق الرسمية التي يمكن أن تقرأها اليوم والتي تختلط فيها العامية بالفصحى.كأنه لا جديد تحت شمس المحروسة.