بقلم - د. محمود خليل
لم يكن «محمد على» الوحيد الذى خامرته السعادة وراحة البال، بعد وفاة الأمير محمد الألفى، بل شاركه فى السعادة أيضاً الأمير عثمان بك البرديسى، الذى كان يرى فى «الألفى» منافساً خطيراً، لن يستطيع بحال أن يتزعم المماليك حال وجوده، ويشير «الجبرتى» إلى أنه كان شديد الحسد للألفى، خصوصاً بعد أن استكثر الأخير من شراء المماليك، وبات قادراً على مخاطبة الدول، كما فعل مع الانجليز، بما كان لذلك من أثر على الباب العالى، اندفع معه السلطان إلى التراجع عن فكرة تعيين محمد على والياً على مصر، وإحلال موسى باشا مكانه، وعودة المماليك إلى مشيخة البلد، والسيطرة على الأمور الداخلية بالمحروسة، كما تعودوا.كان «الألفى» يعلم أن «عثمان البرديسى» أعجز من أن يصد أو يرد مع «محمد على»، وقد حاول غير مرة إقناعه بالانضمام إليه هو ومماليكه، كى يقفوا معاً ضد محمد على، لكنه لم ينجح فى ذلك، فواجه الوالى وحده، واستطاع أن يكسر عساكره أكثر من مرة، لكن سفره إلى إنجلترا، باشتراط من «البرديسى» حتى ينضم هو ومماليكه إليه، أخّره عن استكمال مهمته فى القضاء على محمد على، وقد قضى فى هذه السفرة سنة وعدة شهور، وعاد منها مجهداً، فكان ما كان من وفاته. وقد كان يردد قبل لحظات من موته: «قُضى الأمر، وخلصت مصر لمحمد على، وما ثم من ينازعه أو يغالبه، وجرى حكمه على المماليك المصرية، فما أظن أن تقوم لهم قائمة بعد اليوم».جاءت نبوءة «الألفى» فى محلها تماماً، فقد كان «البرديسى» أهون على محمد على كثيراً من «الألفى». فمبلغ أمله كان التصافق مع محمد على، ويذكر «الجبرتى» أنه انضم إلى عساكر محمد على وهم يطاردون «الألفى»، بعد عودته من إنجلترا، حين اختبأ يومها بين العربان.كان «محمد على» يفهم شخصية «البرديسى» جيداً، ويعلم أنه إنسان منتفخ، يملؤه الغرور، ويقتله الحسد على زعامة الألفى التى تفوق زعامته، فأقبل عليه، وصادقه، ومنحه شعوراً بأنه كبيره وزعيمه، وأن عساكره من الأروام سيعملون مع مماليكه تحت قيادته، ولم يكن الأمر أكثر من حيلة انخدع بها «البرديسى»، فصار أداة من أدواته فى صراعه المرير مع محمد بك الألفى، ولم يكن الأمير المملوك يجد غضاضة فى ذلك، بسبب ما كان يحلم به من استفراد بزعامة المماليك، وكان يغذى هذا الطموح لديه أستاذه إبراهيم بك الكبير.وفى حين كان «البرديسى» يسير مغموراً بالنشوة والسعادة، بعد أن وصل إليه خبر وفاة «الألفى»، ويحلم باللحظة الدانية التى يصبح فيها زعيماً وحيداً للمماليك، إذا بالمرض يداهمه وهو بمنفلوط، فيموت ويدفن هناك، وذلك فى العام نفسه الذى توفى فيه محمد بك الألفى عام 1806.يقول «الجبرتى» فى وصف عثمان البرديسى: «كان ظالماً غشوماً طائشاً سيئ التدبير، وقد أوجده الله -جل جلاله- وجعله سبباً لزوال عزهم ودولتهم، واختلال أمرهم وخراب دورهم وهتك أعراضهم ومذلتهم وتشتيت جمعهم (يقصد بذلك المماليك)».. وسبحان مَن له الدوام.