بقلم - د. محمود خليل
«خاير بك» أحد الأمراء المماليك الذين اشتهروا فى بر المحروسة أواخر عهد الدولة الجركسية.
فالرجل كان أحد قادة قوات المماليك التى تحركت بقيادة «قنصوة الغورى» إلى الشام لملاقاة العثمانيين بقيادة سليم الأول، وإيقاف زحفهم نحو مصر. ظهرت القوات المصرية على العثمانية فى البداية، وبدأت بشائر النصر تلوح فى الأفق. فجأة فر الأمير «خاير» بمماليكه من المعركة، وهرولوا ينصحون كل من يقابلون بالهرب من المعركة لأن الهزيمة حاقت بالمماليك فى «مرج دابق».
وصل «خاير» إلى حلب، وهناك قابل السلطان «سليم»، وبعد المقابلة خلع زى الجراكسة وارتدى زى التراكمة، وفوجئ المماليك المصرلية خلال مواجهتهم للسلطان «سليم» فى موقعة «الريدانية» بخاير بك يقف فى صف الأتراك، ولما انتهت المواجهة بانتصار سليم الأول، وقُبض على السلطان طومان باى وأعدم على باب زويلة، قرر قائد الترك تعيين الأمير خاير بك ملكاً للأمراء ونائباً له على مصر.
تعجب من سذاجة السلطان قنصوة الغورى الذى وصلت إليه معلومات مؤكدة بأن «خاير بك» خائن ووالس مع الترك، لكنه لم يلتفت إلى ذلك بسبب نبوءة تنبأ له بها أحد العرافين وقال له فيها إن خليفته على الحكم يبدأ اسمه بحرف «سين»، فظن أن المقصود هو «سيباى» نائبه على الشام، وأن الأخير يخادعه بما يردد من اتهامات بالخيانة لـ«خاير بك».
كان ما كان وجلس خاير بك على سرير ملك مصر، وأطلق عليه الأهالى -لما علموا خيانته- اسم «خاين بك»، لكن ذلك لم يكن يعنيه فى شىء، فقد حقق حلمه وحكم البلاد، وأخذ كعادته ينهب خيرها، ويعذب أهلها، فسرق وشنق وقتل وطارد، وكله لحساب العثمانيين، حتى وضعت المقادير نقطة النهاية فى سيرته، وهى نقطة ارتبطت بمثل شعبى قفز فجأة على ألسنة الناس، يقول: ما يعرفش ربنا إلا وقت زنقة».
فقد حدث وأصيب «خاير بك» بورم خطير أثر على أداء أجهزته الحيوية، التمس الطب والدواء، دون جدوى، شعر بأنها النهاية، فانقلب رأساً على عقب، فبعد أن كان جباراً عنيداً سفاكاً للدماء مناعاً للخير، إذا به يتحول إلى ريح مرسلة، فيعتق جميع غلمانه وجواريه ويمنحهم حريتهم، ويُخرج عشرة آلاف أردب من القمح يوزعها على المجاورين فى الأزهر، وغيره من بيوت الله، ويطلق سراح المساجين.
وصف «ابن إياس» حال خاير بك وهو يفعل ذلك قائلاً: «لم يعرف الله إلا وهو تحت الحمل». وهو المثل الذى تم تبسيطه على ألسنة العوام فى قولهم: «ما يعرفش ربنا إلا وقت زنقة».
المثل يعبر عن حالة إنسانية لا غبار عليها. فحين يضعف الإنسان ويتزلزل كيانه بالمرض أو غيره من ابتلاءات الدنيا، فإنه يعلم ألا ملجأ من الله إلا إليه، وعادة ما يثوب إلى رشده ويعود إلى ربه، لكن المشكلة أن أمثال «خاير بك» لم يفعلوا قليلاً، من خيانة للأوطان، وتآمر على أبناء جلدته، وإذلال للأهالى، وضغوط عنيفة عليهم، ولما يشعر بدنو الأجل يعود إلى الله ويبدأ فى شراء نفسه وغسل سيرته المرعبة بعدة أرادب من القمح المسروق، وعتق مجموعة من الجوارى والغلمان الذين اشتراهم بالمال الذى جمعه من قوت الناس.
إنه موقف محير. فهل المسألة سهلة إلى هذا الحد؟ رحمة الله تعالى وسعت كل شىء، وهو أدرى وأعلم بعباده، وحساب الجميع على الله، وهو أعدل من حكم.