كان يقلب في صفحته على الفيسبوك كعادته.. فجأة شعر برأسه يفور، ثم يلف، باغتته سنة من نوم، شعر أنه في مكان غير المكان، حجرة كبيرة تزدحم بعدد من الأسرة، يتمدد فوقها مجموعة من المرضى.. الكل في زي البياض.. ذكره المشهد بقصيدة "ضد من" لشاعره الأثير "أمل دنقل"، والتي وصف فيها غرف المرضى، وكيف يتلون كل شىء فيها باللون الأبيض، بما في ذلك كوب اللبن، شىء يصيب القلب بالوهن.. تعجب حين شاهد جده يتمدد على سرير إلى جواره، لقد مات منذ زمان، فما الذي أتى به إلى هنا، أفاق من غفوته، وجد نفسه من جديد في غرفته أمام شاشة الموبايل، على صفحته على الفيسبوك، وصورة جده شاخصة أمامه.. لقد أضافها إلى صفحته منذ عدة سنوات ، واستمطر من أصدقائه الرحمات على روحه المسافرة، ثم نسي الأمر، إلا أن يذكره به "الفيس".
تأمل الصورة ثم تساءل متعجباً: جدي يبتسم، ما هذا إنه يتحدث، يكاد يقفز من الشاشة إلى خارجها.. أليس ميتاً يطير في السماء؟.. لا لا.. إنها ليست صورة جده، إنه شيخ آخر يشبهه في الملامح، لا إنه يختلف عنه تماماً، بل هو، لا ليس هو.. سكنت روحه وشعر أنه سقط في بئر صمت عميق.. بدا وجه الشيخ مريحاً.. أخذ يحملق فيه.. ويتأمله.. إنه أبيض الوجه تنم ضحكته عن بشاشة.. لا وجهه أسمر لكن فيه نور غامض.. شعره أبيض.. لا بل أسود.. طويل.. لا قصير.. بل متوسط الطول.. إن ملامحه تتغير بشكل يثير الدهشة والحيرة.. من يكون الشيخ يا ترى؟.. ينظر إليه الشيخ مبتسماً ويسأله: ألا تعرفني؟
- الشاب: لا يهم أن أعرفك أو لا أعرفك.. الأهم أن أجد صوتاً في بئر الصمت الذي أجد نفسي فيه.
- الشيخ: كيف لا تعرفني وأنت مني.. لقد وضعت صورتي على حسابك من بضع سنين؟
- الشاب (ضاحكاً): كيف لعجوز مثلك أن يعرف عالم التواصل الاجتماعي.. ويفهم في الحساب؟.
- الشيخ: عمري ما انشغلت بشىء في حياتي يا ولدي مثل الحساب.. وأكثر حاجة نبهتني له هي التواصل.
- الشاب: بدأت أذكر.. أنت.... أنت......
- الشيخ: جدك آدم.. هل نسيت اسمي؟
- الشاب: صح.. جدي آدم.. رأيت صورتك كثيراً في درج مكتب أبي لأن أمي ترفض تعليقها بالمنزل (ضاحكاً): أبي سماني على اسمك.. (باستغراب): أنت ميت أم حي؟.. وأنا.. حي أم ميت؟.
- الشيخ: كل ميت حي.. وكل حي ميت.
- الشاب: أذكر أن أمي حكت لي أن داء الخرف أصابك آخر عمرك.. وأنك كنت تتحدث إلى الأموات وأنت حي.. وتعامل الأحياء كموتى.. سلامتك يا جدي.. المهم قل لي: أنا حي أم ميت؟.
- الشيخ: قلت لك.. كل حي ميت.. وكل ميت حي.. أنت ميت حي.. تموت الروح في الجسد.. وتحيا خارجه.. هل تذكر آخر مرة جئتك فيها؟.
- الشاب: أذكر.. ساعات طويلة قضيتها على الواتس أتكلم مع صديقة.. ودخلت علي أمي وأنا أدخن وكسرت رأسي بمواعظها التي لم أسمع منها كلمة.. شعرت بالتعب ونمت وجئتني في المنام.
- الشيخ: كنت ميتاً.
- الشاب: بل نائماً.
- الشيخ: "وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون".. نموت ونحيا كل يوم.. هل فهمت؟.
- الشاب: تقريباً.. لكن أريد أن أعرف وضعي في اللحظة الحالية.. ميت أم حي.
- الشيخ: بين بين.يتدفق صوت جده وهو يردد "الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها".