بقلم - د. محمود خليل
لم ترفض نسبة لا بأس بها من المصريين -بشكل مبدئى- التحولات التى شهدتها البلاد خلال حقبة الانفتاح، ثم حقبة الخصخصة. على العكس فالبعض رأوا فيها أداة جيدة لتحريك السوق وإيجاد فرص عمل، لكن أزمة الكثيرين معها تعلقت بثلاثة أمور: أولها عدم تحسين شروط الحياة بل تعقيدها، وثانيها الفساد، وثالثها عدم مرافقة الانفتاح الاقتصادى بانفتاح سياسى مواز.
لم تؤدِّ سياسات الانفتاح أو الخصخصة إلى تحسين شروط الحياة لدى قطاع عريض من فقراء المصريين ممن ينغرسون فى أحياء مصر القديمة والقرى والنجوع، بل على العكس زادتها قسوة، نتيجة الغلاء والعجز عن الاقتراب من منتوجاتها، ساهمت هذه التحولات فقط فى إيجاد طبقة جديدة من الأثرياء تتحلق حول طبقة الحكم، كان لديها ولع خاص بالاستثمار فى مجال العقارات والاتصالات، حتى تستطيع حلب جيوب أفراد الطبقة الوسطى التى تشكلت، إما من خلال السفر والعمل فى الخليج، أو عبر العمل فى المشروعات الاستثمارية الجديدة الصاعدة، أو الوظائف الحكومية (المربحة!). فى ذلك الحين حاول الفقراء الاحتفاظ بتوازنهم، فكانت لهم أسواقهم الخاصة، وأماكن معينة للشراء، تقدم السلعة أو الخدمة بسعر أقل وبجودة أقل أيضاً (فى العتبة والموسكى والسيدة زينب والسيدة عيشة وخلافه)، ورغم ذلك فقد بدأت رحلة معاناتهم، وظهرت بينهم أخلاقيات جديدة لا تتسق مع معادلتهم التاريخية فى «الأكل من طبق واحد»، كان أبرزها فكرة «القنص» -اتساقاً مع الواقع الانتهازى الذى ساد- فألهبت ظهر الطبقة الوسطى بالأسعار من خلال البيئات الحرفية التى ظهرت على تخوم الأحياء القديمة، وبدأت رحلة الخطف، بالمفهوم الشامل لذلك، مثلما صُدم المجتمع المصرى ككل فى واقعة اختطاف فتاة المعادى عام 1985.
ترافق مع التحول نحو سياسة الانفتاح، ثم الخصخصة، ظهور فضائح فساد كبرى، فاحت رائحتها فى قضايا «القطط السمان»، و«نواب القروض»، و«نواب الكيف»، والصفقات المشبوهة لبيع مشروعات القطاع العام، وغير ذلك. وقد عالج فيلم «الإمبراطور» (1990)، وهو يتصدى لتحليل ظاهرة انتشار الهيروين فى مصر، الكيفية التى تواطأت فيها أطراف عدة، من رجال أعمال، ومسئولين فى بعض المواقع، ونواب شعب، ومغامرين من أدغال الأحياء الشعبية، فى إغراق الشباب والرجال فى المناطق الشعبية، وداخل أوساط الطبقة الوسطى، بالمخدرات، لامتصاص أية فواض تم تحصيلها عبر السفر، أو من خلال العمل فى مشروعات استثمارية، أو عبر القنص الحرفى، إذا صح التعبير.
وعلى مستوى العلاقة بين الاقتصاد والسياسة، لم يشعر المواطن بأى نوع من التوازى بين الانفتاح الاقتصادى والانفتاح السياسى، إذ ظلت المعادلة على ما هى عليه، انفتاح وخصخصة تفتقر إلى العديد من الضوابط المتعارف عليها فى هذا المجال، واحتكار سياسى على مستوى صناعة القرار. وفى ظل ذلك أصبحت معادلة الحياة، خلال الثمانينات والتسعينات، تقوم على أن تتعلم العيش «بلا كرامة» أو «رأى»، وتكتفى بقنص أى فرصة لـ«الخطف» أو «التهليب» أو «الهبش» أو «النتش» أو «الشفط» وغير ذلك من مفردات سادت خلال هذه العقود.
منذ ذلك الحين درات عجلة الرحلة المقيتة التى تحوَّل فيها المجتمع من مجموعة من الأفراد المتآزرين الذين يأكلون من طبق واحد مع بعضهم البعض إلى أفراد يمزق بعضهم بعضاً.