بقلم - د. محمود خليل
ماذا يحدث عندما يفقد جسم الإنسان استقامته ويعوج فى اتجاه معين؟ إنه يعجز عن رؤية الحياة كاملة، وتصبح نظرته محصورة فى النقطة المحددة التى يستطيع النظر إليها، قد تكون إلى الأمام، أو للخلف، أو يميناً، أو شمالاً، الجسد المستقيم هو الذى يمكّن الإنسان من النظر والتعامل مع المشهد ككل.
الحياة تضطرب وترتبك عندما يفقد البشر بوصلة «الاستقامة».
البعض يحبها كذلك، ويبغى اعوجاج الأمور من حوله، وأغلب من يسير على طريق الاعوجاج يقعون فى فئة الناسين للحساب فى الآخرة: «الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ».
فما أصعب الحياة حين ينسى قسم من الساعين فيها فكرة «الحساب»، إن ذلك كفيل بتحلية كل المفاسد للإنسان، حين يزين له شيطانه أنه غير محاسب على ما يفعل.لو أنك تأملت سورة الكهف فسوف تجد أول آية فيها تقول: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا».
فكل تعاليم القرآن الكريم تتأسس على قيمتين كبريين: الاستقامة والاعتدال، وهما قيمتان تتضادان بشكل كامل مع فكرة «الاعوجاج» التى يهواها بعض البشر، لذلك كان من الطبيعى أن يصف الخالق العظيم كتابه الكريم بأنه كتاب يهدى إلى الاستقامة والاعتدال: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ».
موقع هواة الاعوجاج هو دائماً على خط الاستقامة، فتجدهم يعارضون ويعرّضون بالفكرة ومن يتبناها أو يسعى فى الحياة بها.
ويبدو -والله أعلم- أن السر فى ذلك يرتبط بتركيبة الإنسان المفسد، فهو يشعر أن الفساد هو الحالة الطبيعية فى الحياة، وقد يتجاوز ذلك إلى الاعتقاد أنه بفساده هذا يصلح ويقوّم الحياة.
وقد قدّم لنا القرآن نموذجاً لبشر ينكرون على من يحاول لفت انتباههم إلى ما هم فيه من فساد، ويردون بأنهم مصلحون. يقول الله تعالى: «إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِى الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لَّا يَشْعُرُونَ».
الباحثون عن الحياة المعوجّة يجدون أنفسهم فى قطع كل طريق مستقيم، لأنهم يريدون أن يروا الناس جميعاً فسدة أمثالهم، فوجود عنصر صالح يضعهم أمام مرآة حقيقتهم، فالضد فى هذه الحالة يظهر قبحه الضد، لذلك أمر الله تعالى المؤمنين به بعدم الوقوف فى طريق الاستقامة، لأن ذلك يعنى ببساطة الرغبة فى زرع الحياة بالاعوجاج.
يقول الله تعالى: «وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا».
الانحراف عما يصلح الحياة يؤدى إلى اختلال التوازن على الأرض، وذلك أخطر ما يصيب أهلها، وأصل التوازن هو الاستقامة، وجوهر الاستقامة هو يرتبط بأداء الأمانات، ويتحقق معنى النجاح فى أداء الأمانات فى الحياة بالعدل ووضع المهام فى يد من يستحقها، بعيداً عن أى معايير أخرى فاسدة: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ»..الاعوجاج فى الحياة منشأه غياب العدل وإضاعة الأمانات وتراجع الاستقامة.