بقلم - د. محمود خليل
اعتاد الجراكسة على الاختلاط بالتتار، خصوصاً فى منطقة القرم (تتنازع روسيا وأوكرانيا عليها الآن)، وكان بعض «التتر» قد اعتنق الإسلام، وتأثر بهم بعض الجراكسة فدخلوا فى دين التوحيد، وتركوا عبادة «شجرة قودوش»، ودخل البعض الآخر فى الإسلام بعد انتقالهم إلى مصر وهم أطفال تم اختطافهم وبيعهم لسلاطينها الأيوبيين، مثلما حدث مع نظراء لهم تم اختطافهم ونقلهم إلى بغداد أو الشام.
لعب المماليك الجراكسة أدواراً مهمة فى مواجهة الصليبيين أيام صلاح الدين الأيوبى، وتمدد نفوذهم داخل الدولة -كما يشير «شاروبيم»- أيام الملك الصالح ابن الملك الكامل، فأكثر من شرائهم ووضع المال بين أيديهم، وانعكس ذلك بشكل واضح على مأكلهم وملبسهم ومسكنهم ومركبهم، حتى أصبحوا سادة على أهل البلاد الأصليين من عوام المصريين.
تحول الجراكسة إلى مراكز قوة على مستوى طبقة الحكم، وعلى مستوى المجتمع، فهابهم الجميع، بسبب انغراسهم فى كل مكان بالدولة، ومع ضعف الحكام السابقين لهم، وارتفاع منسوب اعتمادهم عليهم، استطاعوا إحداث نقلة كبرى فى تاريخهم داخل مصر، وتمكنوا من الانقضاض على السلطة، حين ظهر بينهم الجركسى العتيد «برقوق اليلبغاوى العمرى»، الذى تفوق على جميع سابقيه ومنافسيه على الحكم، وطلب من الخليفة المتوكل البيعة، فبايعه، ومن بعده بايعه الأمراء والقضاة والعلماء سلطاناً على مصر.
من المحطة البرقوقية بدأت رحلة الجراكسة فى مصر ليسهموا بدور محسوس فى تشكيل وجه الحياة فيها على العديد من المستويات، لعل أشهرها المستوى العسكرى، حيث تميزوا بقدراتهم القتالية العالية، فخاضوا العديد من المعارك التى خرجوا منها منتصرين، لكن عابهم -كما ذكرت لك ذات مرة- أنهم كانوا ينقلبون ضد بعضهم البعض بمجرد غياب العدو، ويبقى أن ثمة مجالات أخرى عديدة تأثرت فيها ثقافة المصريين بما أبدعه الجراكسة وما أوجدوه فى حياة هذا الشعب.
ففى مجال الفن على سبيل المثال يحكى راسم رشدى، صاحب كتاب «مصر والجراكسة»، أنهم أول من أدخل آلات الأكورديون والكمان والمزمار، وكان لديهم ولع خاص بالموسيقى والاستماع، وذلك كجزء من ولعهم برخاء العيش.
وفيما يتعلق بالعيشة المخملية فقد كانت جزءاً لا يتجزأ من الفكر الجركسى.
فقد مال الجراكسة إلى «الزخرف» فى بيوتهم ومساجدهم، وبدوا شديدى الحرص على اختيار الأثواب القطيفة «المخملية»، فارتدوا أفضلها، بل وكانت خيولهم تنعم بأفضل كسوة أيضاً، كجزء من ولعهم بالتميز فى الملبس والمركب.ولست أدرى هل ثمة علاقة ما بين «المخملية» و«الخمول» فى الحالة الجركسية؟.
فـ«ميخائيل شاروبيم» يذكر فى كتابه «الكافى فى تاريخ مصر» أن الجراكسة كانوا أهل كسل وبطالة فى حالة السلم، وهى حالة لم تكن تتناسب بالمطلق مع ما أظهروه من نشاط فى المعارك القتالية، ففى الوقت الذى أبدوا فيه أعلى درجات الشراسة مع منافسيهم، فقد مالوا وقت السلم إلى بناء القصور، وتأثيثها بأغلى المفروشات، والتهام أطايب الطعام، واحتساء أغلى أنواع الشراب، وأجود أنواع الدخان، والولع بالموسيقى والغناء.
الجراكسة هم أول من وضع أسس الحياة المخملية الرخية الهنية فى الحياة المصرية.