بقلم - د. محمود خليل
يتصور البعض أن إغراق الأفراد بأحاديث هائمة مهومة عن الروح، يمكن أن يغنيهم عن مطالب الجسد.. وذلك هو الوهم بعينه.. فمهما كررت على مسامع أى فرد كلاماً عن الإشباع الروحى كوسيلة للصبر على الحرمان من احتياجات الجسد فلن يسمع لك.. فالجائع الذى لا أمل له فى طعام، أو الظامئ الذى يجد الماء سراباً، أو المريض الذى يفتقد الدواء هو شخص مهدود الروح، مكدود الوجدان، هش الإحساس.
الإنسان روح وجسد.. وقد خاطب الخالق العظيم الناس قائلاً: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ».. ويقول تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ».
فمن حق الإنسان أن يطعم ويشرب ويلبس ويسكن ويعيش مثل بقية خلق الله، ومن واجبه أيضاً -حين يوسع الله عليه- أن ينفق ويعطى من حوله مما أعطاه الله، حتى يتمنكوا هم الآخرون من تلبية احتياجات جسدهم.
نعم الصبر على ضيق الرزق مطلوب، ما دام هناك اطمئنان إلى أن «الرزق بيد الله»، ولكن المسألة تختلف عندما يدعوك متخم بأطايب الحياة إلى تمثل الصبر كقيمة روحية لتمرير أزمة يعد المتخم الملسن بحديث الروح أحد أسبابها، فيحرم عليك أطايب الحياة التى تريد الحد الأدنى منها: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ».
يقول عباس العقاد فى كتابه «الإنسان فى القرآن»: «فليس السعى فى سبيل الدنيا ضلالاً عن سبيل الآخرة، وليس فى القرآن فصام بين روح وجسد، أو انشقاق بين عقل ومادة، أو انقطاع بين سماء وأرض، أو شتات فى العقيدة يوزع الذات الإنسانية بين ظاهر وباطن وغيب وشهادة، بل هى العقيدة على هداية واحدة تحسن بالروح كما تحسن بالجسد، فى غير إسراف ولا جور عن السبيل».
التوازن مطلوب فى كل الأحوال، والله تعالى بنى الدنيا على أساس التعادلية، وقلق الناس على قوتها واحتياجات أجسادها مسألة طبيعية، لن يقلل منه أحاديث الزهد والتقشف، خصوصاً عندما يتردد على ألسنة يعتبرها المستمع لا تعانى مثلما يعانى.
الأخلاق هى جوهر الروح، فمن كانت أخلاقه طيبة فإن روحه تكون كذلك، ومن خبثت طويته خبثت أخلاقه.
وليس من الأخلاق فى شىء أن تطلب من الناس الالتزام بأمور لا تلزم نفسك بها فى حياتك، فالله تعالى يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ». وليس من الأخلاق أيضاً أن تزيف الواقع وتقفز على حقائقه، فتبرر الخطأ، وتتغافل عن الصواب. ليس من الأخلاق أن يختلف ظاهرك عن باطنك: «وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ».
قليل من العقل يصلح الروح والجسد.