بقلم - محمود خليل
أبصر الدكتور أنور المفتى نور الحياة صباح أحد أيام شهر مارس عام 1913، ويعود بجذوره إلى قرية «سحالى» بمديرية البحيرة، وانخرط فى سلك التعليم حتى صار واحداً من ألمع أطباء مصر.
ولاء الدكتور «المفتى» للأرض التى أنبتته فى قرية «سحالى» كان كاملاً فوجه جانباً كبيراً من جهده العلمى والطبى نحو التعامل مع مرض البلهارسيا، الذى كان يأكل صحة الفلاحين، واستطاع اكتشاف علاج طبى له ساهم فى تخفيف آلام هذا المرض عن آلاف البسطاء.
وكان لتخصصه فى أمراض «الباطنة» وريادته فى هذا المجال وبحوثه المهمة فى أمراض الضغط والسكر وتصلب الشرايين دور شديد الأهمية فى ذيوع شهرته، إذ تعد هذه الأمراض هى الأكثر شيوعاً فى مصر، وكانت تصيب الكبير والصغير فى بر المحروسة، ولا تفرق وهى تضرب ما بين الجالسين على منصات السلطة والبسطاء من أبناء الشعب، وقد أصيب ببعضها -كما تعلم- الرئيس جمال عبدالناصر رحمه الله، وكان من الطبيعى فى ظل ما تمتع به الدكتور «المفتى» من كفاءة أن تلجأ إليه الجهات الرسمية ليشرف على علاج «ناصر».
تقول التقديرات إن الرئيس عبدالناصر أصيب بمرض السكر أواخر الخمسينات، ويعنى ذلك أن التوقيت الذى ظهر فيه الدكتور «المفتى» كطبيب معالج له تحدد فى هذه الفترة أو أوائل الستينات على وجه التقريب، أى قبل وفاته بحوالى 3 أو 4 سنوات.
والفترة الأخيرة من حياة «المفتى» كانت الأشد لمعاناً وتألقاً فى رحلته، فخلالها وجدت بحوث الطبيب اللامع صدى كبيراً على المستويات الدولية، وذاعت شهرته محلياً كرائد كبير من رواد علاج أمراض الباطنة فى مصر، ودعم من هذه الشهرة الروح الإنسانية الكبيرة التى كان يتعامل بها مع مرضاه.
يشير الكاتب الكبير لمعى المطيعى فى كتابه «موسوعة نساء ورجال من مصر» إلى أن عيادة الدكتور «المفتى» كانت تقع بعمارة اللواء، وتقبع هذه العمارة بشارع شريف، وهو واحد من أشهر شوارع وسط البلد.
كانت العيادة بموقعها الفريد بين الأحياء الراقية والأحياء الشعبية مقصداً للمرضى من طبقات اجتماعية مختلفة، يسوقهم فى ذلك أمل فى الحصول على علاج ناجع لأمراضهم، ولأنه طبيب كبير ذائع الصيت كان المرضى الفقراء يفكرون عدة مرات قبل الذهاب إلى عيادته، لكن ما كانوا يسمعونه من أنداد لهم حول طيبة الدكتور وإنسانيته كان يشجعهم على الذهاب إليه والكشف عنده، كيف لا وهم يسمعون ما يروج فى الشارع بأن هذا العظيم يعيد ثمن الكشف للمريض الذى يظن أنه فقير، وأنه يكتب الدواء للمريض ويعطيه ثمنه، أو يبعث من يشتريه له من جيبه الخاص، إذا اعتقد أنه غير قادر على شراء الدواء، وأن إخلاصه ورعايته لمرضاه يفوق كل حد.
يقول «لمعى المطيعى» إن الدكتور المفتى تبنى نظرية تذهب إلى أن الهدف الرئيسى من الطب والعلاج هو الحفاظ على النوع، وليس الحفاظ على الفرد، وهى نظرية إنسانية بحتة يمكن أن تفهم من خلالها كيف كان يفكر الرجل العظيم، فالحفاظ على النوع يعنى عدم التفرقة فى الطب والرعاية ما بين كبير وصغير، فالبشر كلهم واحد، ولا فرق بين كبير وصغير أمام الشعور بألم المرض، وعدسة الطبيب فى النظر للجميع هى عدسة مستوية لا تضخم من فرد وتقزم من آخر، بل ترى الجميع بشكل مستو.. وعلى هذا الأساس عاش الدكتور أنور المفتى رحلته المهنية يرعى الكبير بذات الكفاءة والإخلاص التى يرعى بها أبسط مواطن.