بقلم: د. محمود خليل
تمتد مراقد سيدات أهل بيت النبى، صلى الله عليه وسلم، من بقعة إلى بقعة داخل المواضع المحيطة بالخضيرى والصليبة وطولون حتى تلفها بحزام يعتبره أهالى هذه المنطقة حزام حماية من غوائل الدهر وعوادى الزمن. خط الدفاع الأول تجده عند ضريح السيدة زينب بنت على، رضى الله عنهما، ثم يأتى الخط الثانى متمثلاً فى السيدة نفيسة بنت الحسن الأنور، رضى الله عنهما، ويبرز الخط الثالث فى ضريح السيدة عائشة بنت جعفر الصادق.
عاشت السيدة عائشة فى كنف أبيها الإمام «جعفر الصادق»، عاصرت معه ميلاد الدولة العباسية بقيادة «أبوالعباس عبدالله»، الشهير بـ«السفاح»، ثم انتقال الخلافة من بعده إلى أخيه «أبوجعفر المنصور». وجعفر الصادق هو ابن الإمام محمد الباقر بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب، رضى الله عنهم، وهو بذلك الإمام السادس من أئمة الشيعة الاثنى عشرية. والعصر الذى عاشه كان عصر صراع مرير، بدأ بالدعوة التى قادها العباسيون دفاعاً عن حق أهل البيت فى الحكم، والتى شكلت الأساس الأدبى للصراع الذى خاضوه ضد الأمويين حتى أزالوا دولتهم، ثم أخذ الصراع شكلاً داخلياً بين الفرعين العباسى (أحفاد العباس بن عبدالمطلب عم النبى)، والعلوى (أحفاد على بن أبى طالب) من أهل البيت.
تمكن الفرع العباسى من حسم الصراع لصالحه منذ اللحظة الأولى التى رأى فيها أبوالعباس أن فرعهم العائلى هو الأجدر بتمثيل بيت النبوة فى الحكم، وأنكر أى حق لـ«على» وأبنائه فى ذلك، وقد تبنى الفكرة نفسها خليفته فى الحكم أبوجعفر المنصور، لكن تهميش الفرع العلوى فى الحكم لم يرض الكثير من الرموز التى حملت على كاهلها فى ذلك الوقت إسقاط الحكم الأموى والدعوة لحكم أهل البيت. فقد رفض «أبوسلمة الخلّال»، أحد أكبر الدعاة لحكم أهل البيت، هذا الطرح، وبدأ يرتب للإطاحة المبكرة بالعباسيين، لكن «السفاح» عاجله وقتله، ثم كان التمرد الأكبر والأخطر الذى حدث على يد «أبومسلم الخراسانى» فى عهد «أبوجعفر المنصور»، وقد التف حوله آلاف المناصرين لحق الفرع العلوى من بيت النبوة فى الحكم، ولم يجد «المنصور» بداً من الحيلة، فاستدرجه إلى قصر الحكم بعيداً عن مناصريه، واغتاله، وألقى بجثته فى ماء دجلة.
بعد اغتيال «الخراسانى» قطعت الذراع العسكرية التى كانت تدافع عن حق الفرع العلوى، وبدأت رحلة اضطهاد جديدة لأحفاد على بن أبى طالب. فى ظل هذه الأجواء انسحب جعفر الصادق من العمل السياسى وتفرغ للنشاط العلمى، وتميز فى هذا المجال أيما تميز، سواء على مستوى علوم الدين أو علوم الدنيا، وأسس مدرسته الفقهية الشهيرة، لكن الحياة لم تخل من منغصات ومطاردات، ساقت ابنته السيدة عائشة، رضى الله عنها، إلى الهجرة إلى مصر، فعاشت بها عدة أشهر، ثم توفاها الله، واحتضنها تراب المحروسة.
تجربة السيدة عائشة فى مصر تشبه تجربة السيدة زينب بنت على، إذ لم تكمل العام بالبلاد حتى وافاها الأجل، وقوبلت عند وصولها بما تعوّد عليه المصريون من احتفاء بأهل البيت. يشير الأستاذ أيمن الحكيم فى مقال له منشور بمجلة الإذاعة والتليفزيون عنوانه «ستنا عيشة.. عروس آل البيت» إلى أن أهل مصر من البسطاء يقصدون مسجدها العامر لتيسير زواج البنات. ولعلك تعلم حالة الوجع التى تصاب بها أية أسرة بسيطة عندما يتأخر زواج ابنة لها، وما أسرع ما تجد سيدات الأسرة يهرولن إلى أضرحة أهل البيت وأولياء الله الصالحين من أجل المساهمة فى حل هذه المشكلة.
لقد باتت سيدات أهل البيت المحيطات بشوارع الخضيرى والصليبة وطولون ومحمد قدرى وعبدالمجيد اللبان شريكات لأهالى هذه المنطقة العريقة فى مشاكلهم، يلتمسون عندهن المعونة والمساعدة. البسطاء يؤمنون أن كل شىء بيد الله، لكنهم يعلمون أيضاً مقام المتقين من أهل بيت النبى ومن المؤمنين عامة عند الله، ويشعرون أن أرواح هؤلاء الطيبين الأخيار ستتعاطف معهم، وترق لحالهم، وتدعو الله لحل مشكلاتهم، لذا تجدهم يحبون الدعاء فى ساحاتهم الطاهرة، والأعمال فى النهاية بالنيات.