بقلم :سمير عطا الله
في شبابنا قرأ أكثرنا الأدب الروسي بعناوينه المعروفة. كانت المرحلة الغالبة آنذاك مرحلة اليسار والاشتراكية، وذهب فريق من المتشددين القادمين من خلفيات متواضعة أو مسحوقة إلى الشيوعية نفسها والمنظم لها، أي الحزب. وهؤلاء كانوا فريقين: باسم يعتبر أن الأرض تتسع لجميع الشعوب والأمم، وآخر عابس متجهم مكفهر غاضب لا يريد أن يضيع دقيقة واحدة في رمي الرأسمالية في «مزبلة التاريخ».
الفريق هذا رأى أن الجهلة بالأدب الروسي يقرأون رواد ما قبل الشيوعية فقط، فعثر على ماكسيم غوركي وراح يفاخر به في الكتابات الحزبية والخطب الحزبية واجتماعات الحزبيين في الأمكنة السرية لتدارس وسائل إنقاذ الإنسانية. وكما لو أنهم في أمر حزبي واحد اختاروا من أعماله «الأم». وصرت تقرأ في الصحف والمجلات المتقشفة المظهر، خشفة الورق، كثيرة الحبر، الدراسات المطولة حول «الأم». وكانت النتيجة أن القراء الآخرين نفروا من غوركي واعتبروه مفوض الدعاية في الحزب.
فات حماسيو غوركي عندنا، في معركة التجهم والاكفهرار، أن غوركي نفسه أكد أن «الأم» أسوأ أعماله. خرجت من جناح «الأهلية» في معرض الشارقة بالجزء الأول من ثلاثية غوركي عن سيرته: «طفولتي». يا للروعة أيها الرفيق. يا للروعة. وكم أنك روسي مثل الأوائل. وفي تراثهم. وفي غنى الأسلوب الشاعري الذي يولد معهم. ولا يولدون في المستشفيات بل في غرفة واحدة حيث يموت الأب، ثم الأخت، ثم تتزوج الأم من رجل آخر، رجل فظ وقاسٍ ومحتال ومبذر ومتهور، ثم تلد منه، والأم ماذا تريدها أن تفعل؟ أن هذا الفظ هو أيضاً الرجل الذي يعيل سكان الغرفة.
سوف تعثر على بقية السيرة في مكان آخر. هنا، في معرض الشارقة، اختاروا من غوركي طفولته التي يبدأ سردها يوم مات أبوه: «كان والدي مستلقياً على الأرض، تحت نافذة غرفة صغيرة مظلمة تعج بالغبار، وقد بدا لي طويل القامة بشكل لافت، إذ لف برداء أبيض من رأسه إلى أخمص قدميه. وكانت والدتي، بتنورتها الحمراء، جاثية قربه تسرح شعره الطويل الناعم المنسدل على جنبه، بذلك المشط الأسود الذي اعتدت أن أقطع به قشر البطيخ. وإذ هي تسرح شعره كانت تحدث نفسها بصوت مبحوح وكلمات ناعمة وقد انتفخت عيناها الرماديتان وراحتا تذرفان دموعاً عميقة».
كيف يكتب الروس اليوم؟ هل هناك مكان لمثل هذه الدراما؟ ولكن أيضاً كيف يقرأون. هل لا يزال القارئ الروسي نفسه؟ المناخ نفسه؟ هل لا تزال قصة غوركي الذي غادر المنزل في التاسعة من العمر، تثير الأحاسيس نفسها في الروس الجدد؟ تعيدك معارض الكتب إلى معرض الذاكرة. رعشة الأدب لا تزول.
إلى اللقاء...