بقلم - سمير عطا الله
حدث هذا ظهر أمس في مطار هيثرو، حيث تقلع وتهبط ألوف الطائرات كلَّ يوم. سجلت السيدة رحلتها وجلست على كرسي متحرك في طابور المسافرين. عند بوابة تفتيش الحقائب، ترجلت للفحص الكهربائي، وما أن وضعت قدمها على الأرض حتى علا صوت صفارة التحذير مولولاً. أصيب الجميع بالرعب، خصوصاً هي. طلب منها موظف التفتيش بقسوة أن تضع أمامها كل ما هو معدن. فعلت. مرَّر الآلة مرة أخرى على السيدة، فعلا الصفير من جديد. تجمع المدققون. تطلع الفضوليون. تساءل الجميع، هل يعقل أن تحمل سيدة في مثل هذا الرقيّ مواد متفجرة؟ اضطر الموظفون إلى تمزيق بعض الجيوب. عاودوا الفحص، عاودت حقيبة اليد الصفير. ارتفعت الشكوك. سيدة مسافرة إلى بيروت، وليس معها سوى حقيبة يد، والحقيبة تصفّر في نوبة جنون.
ومن واجب الموظف في مثل هذه الحالات، ليس أن يأخذ بمظهر الرقي والبراءة، وإنما بما تقوله الصفارة. بل زاد هدوء السيدة المسافرة إلى بيروت في دوافع الشك. ولذا انتقلت ترتيبات هيثرو إلى الإجراء الأخير. طُلبت مساعدة الشرطة وأدواتها الفائقة الدقة. وجاء رجال الشرطة عابسين. إنهم من «شرطة الحدود»، وليسوا من شرطة لندن ذوي القبعة المضحكة التي يلهو بها الأطفال: جاءوا ومعهم كلاب التشمم.
أدّوا تحية مؤدبة وجافة للسيدة المشتبه بها. وقال الضابط، يا سيدتي آسفون، ولكن الجهاز لا يخطئ، وهو ينبهنا إلى وجود مواد متفجرة، هل هناك شيء أغفلتِ ذكره؟ وأجابت بكل براءة: لا شيء إطلاقاً، سوى دواء الأعصاب، الذي أحمله إلى زوجي لأن الأدوية الصالحة مفقودة عندنا.
أخرج الدواء من الحقيبة، وعرضت على المدقق الآلي، فاهتاجت فرقة الكلاب، ثم هدأت بفرح، مما يعني تحديد المادة المتفجرة: إنه الدواء.
ما العمل؟ طائرة السيدة تكاد تقلع. والمطار مستنفر، وهذه السيدة تكابد لكي لا تنفجر في البكاء. فهي لا تدري لماذا تسببت لأهل المطار بكل هذا الإزعاج، ولنفسها بكل هذا الحرج. وهي تسافر إلى هذا المطار ومنه منذ نصف قرن، فماذا حصل الآن، ولماذا أصبحت أدوية الأعصاب من مواد متفجرة.
أخيراً قرر الضابط، على مسؤوليته، السماح للسيدة بالسفر. وعندها انفجرت بالبكاء. لم يحدث في حياتها أن تعرضت لمثل هذا الموقف المذلّ. أغلى ما ينقله اللبنانيون هذه الأيام في عودتهم إلى الديار هو الأدوية. وخصوصاً أدوية الأعصاب، لأنها الأكثر استهلاكاً والأقل توافراً. وأنى لهم أن يعرفوا أن بعض هذه الأدوية تدخل فيه «مواد متفجرة» وفق وصف ضابط هيثرو الذي غضب هو أيضاً من نفسه، لأنه وضع سيدة مثل هذه السيدة في موقف مثل هذا الموقف. روت زوجتي ما حدث وهي لا تزال تبكي. صعب أن تصدّق ما حدث، وصعب أن ينسى. سيدة على كرسي متحرك، ودواء يثير الرعب. وقد صنع في بريطانيا.