بقلم - سمير عطا الله
بعض البلدان تُعشق أيضاً من النظرة الأولى، أو من الزيارة الأولى. وقد أحببت كينيا وأنا في أوائل شبابي وهي في عز صباها الجميل. لم يكن أجمل ما فيها أكبر محمية طبيعية في العالم، ولا جبالها الضاربة في ثلوج السماء، ولا ساحِلها الأخّاذ، بل كان طيبة أهلها وبساطتهم ومعاملتهم للغريب وكأنه وصل إلى البلاد من قبلهم.
داوَمتُ على متابعة أخبار كينيا وكأنها مسألة شخصية، وليست فقط حدثاً دولياً. وكنتُ أسعد بأنها لم تنزلق إلى النزاعات مثل دول القارة الأخرى. ومع أنّ التدهور أحاط بها من الجوار القبليّ المعطوب، مثل أوغندا والصومال وزامبيا، فإنها صمدت في وجه الكوارث الأهلية، واستمرت في التطّور وأصبحت عاصمتها مقراً للأمم المتحدة.
غير أن العلّة الأفريقيّة ما لبثت أن تسرّبت إلى البلاد التي زعم البعض أنها جنّة عَدَن. وسارَ كل رئيس يأتي ومعهُ قبيلتُهُ وأحقادها ورغباتها وشهوات التسلط. وما لبثَ الوضع أن تفجّر كما في سائر القارّة، ومثل الآلاف، بنزاعات داخلية، كما قُتِلَ الآلاف من قبل في الحرب ضد الاستعمار. من حسن الحظ أن السلام لم يتأخر في العودة، وأن القتال القبليّ الرهيب لم يبلغُ ما بلغهُ في رُواندا أو الكونغو أو الصومال. غير أن الجروح القبليّة لم تندمِل. فقد أشعل القادة ناراً عميقة في هشيمٍ وسيعٍ.
أتذكر الآن ما حلّ ببلاد كلمنجارو وأنا أتابعُ ما خلفه قادة السودان عبر السنين في إثارة البراكين القبلّية. فجأةً لا يعود المواطن سودانياً أو كينياً أو صومالياً، بل يصبح من الزولو، أو من كيبركا، أو من دارفور.
ولا تعود هويته وحدة البلاد، وإنما تميّزه في طول القامة أو كبرها أو سرعة العدو في سباق الحواجز.
المؤسف أن كل ما حصل في أفريقيا بعد الاستقلال كان من صنع أبطال الاستقلال. أخفق معظم القادة في بناء رمزٍ توحديٍ ومصيرٍ واحد.
منذ موجه الاستقلال الكبرى لعام 1960 حتى الآن تتوالى نماذج الخراب، ولعل الأكثر سوءاً ما نراه في السودان، حيثُ يلغي العسكريون مفهوم الدولة، ليعودوا بنا إلى فوضى القبائل. أطاح رجالٌ مثل النميري والبشير و«دقاو»، برجال مثل الصادق المهدي العائد من أوكسفورد، أو محمد أحمد محجوب، شيخ الأدب والشعر والخلق. ويبدو أن النهاية بعيدةٌ جداً.