بقلم - سمير عطا الله
تتسم شعوب العالم وقبائلهُ وأممهُ بصفاتٍ خلقيةٍ ترافقها مدى الدهور. يسافر الآيرلندي إلى الولايات المتحدة ويعيشُ ويموتُ ويترك أحفاداً خلف أحفاد ولا يزالُ يقال للحفيد الأخير إنه آيرلندي حتى لو بلغ الرئاسة مثل كيندي أو ريغان أو بايدن. ويقال لمستشار الأمن القومي إنه بولندي مع أنه مؤتمن على قرار الحرب والسلم. وفي فرنسا أو بريطانيا أو بلجيكا، تلاحق أهل الأقاليم والمقاطعات صفاتٍ لا تتغير مع الزمن. ويصرّ الكندي في مقاطعة كيبيك على أنه فرنسي رغم كونه قد ولد منذ عشرات العقود في صقيع كندا وأفكار البلاد الجليدية، التي كان الفرنسيون أول من وصلوا إليها.
أكثر الشعوب تميزاً عن سواهم، أصدقاؤنا وجيراننا الإيطاليون. إنهم شعبٌ يحب الغناء «ويجيدهُ» والشعر والرقص وهجاء الفرنسيين. لذلك يكره الحرب والعمل والجهد، ويعشق المقاهي والثرثرة إلى ما بعد منتصف الليل. والثابت حتى الآن أن إيطاليا لم تربح حرباً واحدة، وأن الإيطالي لم يكسب معركةً إلا إذا كانت ضدّ إيطاليٍ آخر. لكن كيف يدبرُ أموره بين الأمم في هذه الحال؟ الأمر بسيط جداً. فهو ماهرٌ في الاستفادة من حروب الآخرين وتحويلها إلى مكسب لهُ. هكذا مثلا ترك الألمان يقاتلون وراح ينسب الأرباح إلى نفسه. وقال مفكرهُ الساخر الشهير ميكيافيلي إن غريبالدي ربح حرب التوحيد لأنه لم يكن في مواجهته سوى الإيطاليين. وقد روى هذا أن كاردينال مدينة روان الفرنسيّة قال له ذات يوم إن الإيطاليين لا يملكون موهبة الحرب، فأجابه بكل بساطة: والفرنسيون لا يملكون موهبة السياسة. يضيف ميكيافيلي قبل أربعة قرون «في جميع الحروب التي وقعت في السنوات العشرين الأخيرة، كل جيشٍ كان إيطاليا فقط، فشل في خوض أي امتحان».
القتال ليس في ثقافتهم، والخشونة لا تتماشى في أي حال مع الأناقة والفنون وأجمل اللوحات والمنحوتات، والطقس الجميل والخلجان الرائعة، وتغريد العنادل وهندسة البيوت الجميلة والحدائق المذهلة، وجميلات روما وجمالاتها، حجراً وبشراً، ونداء الخمول والكسل والاسترخاء، وبلابل الغروب في مدن الجنوب، ودور الأزياء في مدن الشمال، والصيف في جبال التيرال مع النمسا.
كيف يمكن لهذا الإيطالي المغني أن يترك كل هذا من أجل أن يذهب إلى القتال مع غيره من الإيطاليين أو ضدهم، وهم لا يشبعون من الحروب الكبرى والصغرى، ولا يكفّون عن الهزيمة والثأر. ولكن كيف بنى هذا الشعب المغني ذات مرحلة إمبراطورية روما، وهجم هانيبعل في جبال الألب وصدّ الفرس واليونانيين وحتى العرب؟ ألم نقل لكم إنه كان يعرف الاستفادة من انتصارات سواه؟ إن استعادة تاريخ روما معقدة، بل محرجة أحياناً، وعلى سبيل المثال كان 12 قيصراً من قياصرتها يعيشُون حياةً غير طبيعيّة. وقد أحرق نيرون روما الحبيبة وهو يعزف لها الموسيقى. وكان من هوايات القياصرة أن يرموا مواطنيهم إلى الأسود في حلبات المصارعة. وهي رياضة مسلية انتقلت فيما بعد إلى شعوبٍ كثيرة.
جاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى إيطاليا لزيارةٍ رسميّة أيام حكومة سيلفيو برلسكوني. وعندما عاد إلى بلاده الباردة وموسكو الدائمة الغيوم، أرادَ أن يبعث بهديةٍ رمزية إلى مضيفه ولم يتردد كثيراً في الاختيار. كانت الهدية سريراً كبيراً من صنع روسي. واعتبر برلسكوني أن الأمر مديح لرجولته، وليس تلميحاً إلى كره الإيطاليين للحياة العسكريّة.