بقلم - إميل أمين
للمرة الأولى، تحتفل المملكة العربية السعودية بيوم التأسيس، بحسب الأمر الملكي الصادر عن خادم الحرمين الملك سلمان بن عبد العزيز.
يستدعي الاحتفال التوقف والتساؤل عن ما ورائيات الحدث، لا سيما أنه يتقاطع طولاً وعرضاً مع فكرة البحث عن الجذور وتأصيل الأمور تأصيلاً وطنياً ومجتمعياً.
مثير هو طرح يوم التأسيس، ذلك لأنه وفيما يسعى إلى الإعلاء من شأن الجذور الراسخة لدولة تمتد إلى أكثر من ثلاثة قرون في شكلها المؤسساتي، وعلى مراحل ثلاث، فإن البحث عن، وتمتين عمق الأصالة، وتقدير أدوار الآباء المؤسسين، يبقى في كل الأحوال طريقاً للوفاء، ونبراساً لتقدير جهود الأولين.
تبدو الأصالة قضية أخلاقية وفلسفية في آن واحد، وعند كثير من الفلاسفة أنها الدرجة التي تتوافق فيها أفعال الفرد مع معتقده ورغباته، على الرغم من الضغوطات الخارجية والظروف البيئية المحيطة به، والرأي للفيلسوف الدنماركي سيرن كيركيجارود.
يأتي يوم التأسيس ليخلق جسراً بين الماضي والحاضر، وليعزز النظرة السعودية للذات الواعية المتصالحة مع العالم الخارجي، ومواجهة كل متغيراته ومتطلباته، من غير تهوين في إرثها الماضي، ومن دون أن تغفل التطلع إلى آفاق المستقبل، بهدف واضح لا يغيب عن الأعين، وهو صالح ومصالح الأجيال القادمة.
من زمن الأب المؤسس الإمام محمد بن سعود، وإنشاء نواة التأسيس الأولى في الدرعية عام 1727، وحتى الملك سلمان، طريق طويل من الكفاح الذي يستحق الذكر، وقصة تروى في سياق الاحتفاء بوطن راسخ في التاريخ، وسعي جماعة بشرية للتوحد خلف قيادة، بهدف تحقيق الوحدة وإشاعة الاستقرار.
ولعل الناظر لـ«الهوية البصرية»، ليوم التأسيس، وشعار «يوم بدينا»، يستلفت انتباهه هذه الرحلة التاريخية التي حمل فيها رجال ذوو بأس شديد الراية، ومضوا بها في ظل ظروف مناخية صعبة، وقلة في الموارد، لا تقاس بالرفاهية التي تنعم بها الأجيال المعاصرة، وعلى الرغم من ذلك كله، سجل التاريخ لهم بطولات، حين دافعوا عن أرضهم وحلمهم.
لا مستقبل لمن لا ماضي له، قولاً واحداً، وربما لهذا يمكن فك شفرات الرموز الأربعة الموجودة في تلك الهوية، بناء على سردية الثلاثمائة عام الماضية.
التمر، يؤكد أن أرض المملكة كانت رمزاً للكرم والنماء، فيما المجلس فإنه يثبت روح الوحدة والوفاق بين أصحاب الأرض صناع التاريخ، والخيل المعقود بنواصيها الخير، إشارة واضحة إلى حضور القوة والمنعة لدى فوارس أشداء على الأعداء، رحماء فيما بينهم، وتبقى السوق دلالة واضحة على أن المملكة التي عرفت حياة اقتصادية تدعمها وتزخمها أهمية المكان جغرافياً، قادرة اليوم وفي ظل الأحفاد ومن يليهم، على تحقيق حالة من الحراك المجتمعي، المال والأعمال أحد أجنحتها، فيما رؤية أعم وأشمل تظللها، تتمثل في خطط تنموية واسعة الأفق رحيبة المعنى والمبنى.
يعن للقارئ أن يتساءل، وله في ذلك ألف حق وحق... لماذا الاحتفاء والاحتفال بيوم التأسيس، وأي هدف يتطلع إليه صاحب الأمر؟
باختصار غير مخل، يمكن القطع بأن اليوم فرصة طيبة لإظهار الاعتزاز بجذور وأصول الدولة، ولتبيان عمق علاقة التعاون والشراكة بين المواطنين وقادتهم، وفي الوقت عينه التوقف لبرهة والتطلع إلى ما تم تحقيقه من منجزات تتمثل في وحدة بعد تشتت، واستقرار بعد فترات اضطراب، وأمن بعد طول انتظار عبر قرون سبقت التأسيس بمراحله الثلاث.
ولعل الدرس الأنفع والأرفع عبر جميع الاحتفالات التي تجري على هامش هذه الذكرى، يتمثل في الدعوة لفتح الأعين على مراحل صمود الدولة السعودية، في مواجهة الأنواء والعواصف التي مرت بها، واستعادتها لقوة جذورها، ومتانة فروعها التي تمثلت في بدايات القرن العشرين من خلال دعوة الملك عبد العزيز رحمه الله، لانطلاق المرحلة الثالثة من مراحل التأسيس، ومن بعده راكم أبناؤه النجاحات بعضها فوق بعض، لتضحى المملكة في العصر الحديث الرقم الصعب في الخليج العربي، والشرق الأوسط.
وفيما المملكة تعيش زهوة يوم التأسيس، تطفو على السطح مرحلة جديدة من التخطيط والتدبير لدخول العصر الحديث، سياسياً وعسكرياً، اقتصادياً ومالياً، وتبدو السعودية نداً ونظيراً للمجتمعات الناجحة، تلك التي تعرف معرفة يقينية كيف تتدبر تطوير مروحة من المؤسسات التي ترعى وتوجه المواهب والكفاءات، وتستنفر الطاقات لدى مواطنيها ومقيميها، لتضحى حاضنة جاذبة لكل مبدع خلاق، يسعى في الصعود إلى أعلى عليين.
نجحت السعودية عبر ثلاث مراحل في تقديم رؤية متماسكة لدولة ويستفالية، ذات حكومة مركزية فعالة تضع أقدامها على الأرض، فيما أبصارها شاخصة إلى السماء، ساعية في طريق العدل والكفاية، والمساواة وتحقيق الذات.
رسالة يوم التأسيس المؤكدة هي خلق ذلك الوازع الوطني في نفوس شباب الأمة ودفعهم في طريق تحمل مسؤولية الوطن الكبير، ومستقبله في أعناقهم... الذين يقرأون لا ينهزمون.