بقلم : إميل أمين
يحتاج الحديث عن إظهار العلاقة بين الڤاتيكان، أو بالأحرى الكنيسة الكاثوليكية والإسلام، إلى مجلدات قائمة بذاتها، وليس مجرد مقال .
ولما كان من غير الممكن في هذه الإحاطة السريعة الرجوع إلى القرن السادس الميلادي مع ظهور الإسلام، فربما كان من الأفضل أن نطوِّف في نظرة سريعة على العلاقة بين الغرب، الذي يُطلَق عليه جوازًا "المسيحي"، والعالم الإسلامي في العصور الوسطى، والهدف فقط هو تبيان قدر الخطوات الإيجابية والخلَّاقة التي آلت إليها تلك العلاقة، وبخاصة منذ منتصف ستينيات القرن المنصرم، وتحديدًا مع بلورة المجمع المسكوني الڤاتيكان الثاني، لصورة ونمط جديدين للعلاقة بين الكنيسة الكاثوليكية، والأديان الإبراهيمية؛ وفي المقدمة منها الإسلام .
في مؤلَّفِه القيم «تراث الإسلام» يخبرنا البروفيسور «شاخت بوزون/ جوزيف شاخت»، كيف أن النظرة كانت سلبية إلى حد كبير من قِبَل الأوروبيين لجهة العرب والمسلمين؛ فقد حدث في نظر الأوربيين في مطالع القرون الوسطى، أنْ قام شعب «هائج» بحسب توصيفهم، من العرب و السراسنة، عُرِف بالسلب والنهب، وهو علاوة على ذلك شعب غير مسيحي، فاجتاح وخرب أراضي واسعة، وانتزعها من قبضة المسيحية، ولقد وصلت الكارثة أخيرًا إلى أسبانيا والشواطئ الإيطالية، وكذا بلاد الغال، وكانت موجة البرابرة الغزاة ذاتها هي دائمًا المسؤولة.
كان من الواضح للغاية أن هناك حالة من القصور في المعرفة والإدراك الغربيين، والمقصود الأوربيون تحديدًا؛ إذ لم تكن قارات العالم الجديد قد اكتشفت بعد، وفي المقدمة منها الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا خاصة.
في هذا السياق التاريخي، بدا واضحًا للعيان أنه لم تطرح إلا أسئلة قليلة عن الشعوب العربية والإسلامية من قبل البلاد المسيحية؛ ولهذا كان النظر إليهم على أنهم كارثة، مثلهم مثل الشعوب البربرية الأخرى.
كما أنه لم يكن للحملات التي كانت تتراوح بين النجاح والفشل، والتي كانت تُشَنُّ على حدود إسبانيا، بما فيها التحالفات مع الأمويين المنشقين الذين كانوا يأتون أحيانًا إلى «إكس لا شابل» طلبًا للمساعدة، كما لم يكن للقتال ضد الغزاة في بلاد الغال وضد القراصنة في سواحل بروفانس وكورسيا وسردينيا وإيطاليا، ولعمليات أخرى، تأثير يُذكر على موقف الفرنجة الأساسي.
لقد كان المسيحيون قد سمعوا بالسراسنة (العرب) قبل الإسلام بزمن طويل، وعندما غير السراسنة دينهم لم يكن أحد يلحظ ذلك في بادئ الأمر، فمثلًا يذكر تاريخ للعالم يعود إلى القرن الرابع، أن السراسنة كانوا يحصلون «بقوة القوس والنهب على ما يحتاجون إليه في الحياة».
ولم يكن هناك أي حاجة للمزيد من المعلومات عنهم، فكان الباحثون وحدهم هم الذين يتجادلون حول اسمهم المشتق من سارة، زوجة إبراهيم، رغم أنهم من سلالة هاجر، كما يدل على ذلك اسمهم الثاني، وهاجر هي الأَمَة التي طُرِدَت إلى الصحراء مع ابنها إسماعيل، وقد كان هذا التضارب في حد ذاته إشكالية كبرى.
والشاهد أنه إذا جاز لنا أن نقوم بقفزة واسعة من القرون الوسطى، إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، فإننا سنجد مساحة واسعة من العمل المشترك بين الڤاتيكان والإسلام، عملٌ تجذر عبر علاقات دبلوماسية في زمن سعيد الذكر البابا بيوس الثاني عشر، إلى أن توثَّق بقوة في عهد خلفه البابا يوحنا الثالث والعشرين.
في مؤلفه الشائق «بين روما ومكة... البابوات والإسلام» يخبرنا المؤلف الألماني الأصل «هاينز يواكيم فيشر»، أنه عندما توفِّي البابا بيوس الثاني عشر في التاسع من تشرين أول أكتوبر 1958، في المقر البابوي الريفي في «كاستيل جاندولفو»، أصبحت مشاركة وفود عربية وإسلامية بمحافل العزاء في ساحة القديس بطرس في روما أمرًا عاديًّا، يتفق مع العلاقات الدبلوماسية التي أرساها البابا المنتقل، وبينما كان العالم كله ينظر متلهفًا إلى انتخاب البابا الجديد، فإن البلدان الإسلامية كانت تتذكر التطور الذي بدأ تحت القيادة الحكيمة لبيوس الثاني عشر، وهي تأمل أن يتواصل ذلك أيضًا تحت قيادة البابا الجديد»... والسؤال لماذا؟
الثابت أن بيوس الثاني عشر أظهر قدرًا روحانيًّا كبيرًا تجاه العالم، ومد بذكاء كبير جسور التواصل مع العالم الإسلامي، وقد جاء من بعده البابا يوحنا الثالث والعشرون، الذي يجمع المتابعون لسيرته على أنه كان مثل طيف طيب مرَّ بالإنسانية، متجاوزًا ما هو أبعد من حدود معتقده الديني، وحدود الأديان، وشاملًا بخيره كل ما هو إنساني، ولهذا أطلق عليه لقب «بابا بونو»، أي البابا الطيب، كما نعته المسلمون بهذا الوصف أيضًا.
كان انتخاب يوحنا الثالث والعشرين في الرابع من تشرين الثاني 1958، حبرًا رومانيًّا كاثوليكيًّا، إيذانًا بفتح صفحة جديدة، وربما مفاجئة في العلاقة بين البابوات والإسلام.
عمل «يوحنا الثالث والعشرون» خلال حبريته القصيرة التي لا تتجاوز خمس سنوات (1958 – 1963) على انفتاح الكنيسة الكاثوليكية، التي كانت تبدو قلعة قوية ثابتة ذات حدود تفصلها عن الآخرين، وعن المجتمع البشري الحديث، وكذا عن الكنائس والطوائف المسيحية الأخرى، غير الكاثوليكية، وعن اليهود والأديان العالمية الأخرى، وفي المقدمة منها الإسلام الجار الجغرافي والديموغرافي الأقرب.
كانت معلومات «يوحنا الثالث والعشرين» عن الإسلام والمسلمين أكثر من مجرد تصورات، و كان على نحو رئيس، وخلافًا لما كان عليه سابقوه من الباباوات الإيطاليين، على إلمام بما هو أكثر سعة من الإطلالة على أوساط العالم الكاثوليكي وحده، وإدراك المحيط الخاص بالكثلكة بوصفه مجتمعًا موازيًا
قبل ذلك بنصف قرن، أي في عام 1906، كان البابا في سن الخامسة والعشرين، فشغل في ذلك الوقت منصب سكرتير أسقف في الأرض المقدسة؛ أي في فلسطين التي كانت جزءًا من الإمبراطورية العثمانية.
بدأ «أنجيلو جوزيبي رونكالي» (اسم البابا قبل تنصيبه) كارهًا للعنف، فقد عرف ويلات الحرب عبر الصراع الكوني الأول، ولم يكن يرى أن الأمم هي التي تتقاتل بل الشعوب، وقُدِّرَ له لاحقًا أن يخدم في تركيا لتزداد رؤيته للعالم الإسلامي.
استطاع يوحنا الثالث والعشرون، الذي زعم بأنه انتُخِب بابا انتقاليًّا أن يجتاز بكل تأكيد فترة انتقالية، حيث نصب جسرًا للعبور من داخل الكنيسة وفي اتجاه الخارج وصوب الإسلام أيضًا؛ فقد قام من خلال دعوته لعقد «المجمع المسكوني الڤاتيكاني الثاني»العام 1962، بإطلاق ثورة ثقافية حقيقية داخل الكنيسة الكاثوليكية، وصلت تأثيراتها إلى بؤرة العالم الإسلامي، بل أكثر من ذلك أنه سيقدر لهذا المجمع أن يصدر أول وثيقة رسمية تجاه العالم الإسلامي، تقر بأن المسلمين يعبدون الله الواحد الأحد.
لقد أصبح المبدأ الأسمى الذي أطلقه البابا الجديد، مفهومًا في كل مكان، وهو المتضمن أولوية الإنسانية والإنسان على الدين وما هو ديني؛ فبرنامجه كان شعاره «السعي نحو الحاضر»؛ أي توجيه الكنيسة للتلاؤم مع متطلبات الزمن الجديد، ومتطلبات الإنسان المعاصر، كان يسري عليها فقط، ولكن التلاؤم في نطاق هذا البرنامج صار ينطبق على كل دين، وعلى الإسلام، كما يبدو خاصة.
كانت المسيرة الفاتيكانية نحو العالم الإسلامي قد إنطلقت في الطريق إلى وثيقة " في حاضرات أيامنا ..ماذا عن هذا العمل الكبير والخلاق ؟
إلى قراء قادمة بإذن الله .