توقيت القاهرة المحلي 20:21:01 آخر تحديث
  مصر اليوم -

عالم الحروب وسلام «كانط» الدائم

  مصر اليوم -

عالم الحروب وسلام «كانط» الدائم

بقلم:إميل أمين

هل عالمنا المعاصر، بأمواجه وأنوائه، حروبه ومواجهاته، في حاجة إلى إعادة قراءة كتابات الفيلسوف الألماني الأشهر، إيمانويل كانط، والذي تمر هذا العام ثلاثة قرون على مولده (1724)، لا سيما رؤيته للسلام العالمي؟

يمكن اعتبار كانط، ومن غير مغالاة، آخر الفلاسفة المؤثرين في الثقافة الأوروبية الحديثة، وكذلك أحد أهم فلاسفة عصر التنوير الأوروبي، ذاك الذي بدأ بالمفكرين البريطانيين أمثال، جون لوك، جورج بيركلي، وديفيد هيوم.

استشرف كانط من قراءته لمسيرة الإنسانية حاجة العالم إلى السلام، بأكثر من الحرب، وهي في واقع الحال فكرة قديمة اتجه إليها حكماء العصور الغابرة وحمل لواءها الفلاسفة الرواقيون منذ القرن الثالث قبل الميلاد، حين أهابوا بالإنسانية أن تحرر نفسها مما يفرّق بين الإنسان وأخيه الإنسان من فروق اللغات والأديان والأوطان، ونظروا إلى الناس جميعاً وكأنهم أسرة واحدة، قانونها العقل ودستورها الأخلاق.

من هنا بدا كانط أكثر الفلاسفة الأوروبيين عناية بمسألة السلام العالمي، وصاحب آراء متعددة ومتنوعة في الدروب الواجب سلوكها من أجل أن يعم السلام على الكرة الأرضية، تلك التي ضمّنها في كتابه الشهير المعروف باسم «مشروع للسلام الدائم»، وفيه أعلن عن حتمية إنشاء حلف بين الشعوب، كسبيل وحيد للقضاء على شرور الحروب وويلاتها.

أعظم ما في فكر كانط ثقته المطلقة في الإنسان، ومن الواضح أن جذوره الدينية العميقة قد زرعت فيه فكر استخلاف الإنسان في الأرض لعمارتها، لا لتدميرها أو تخريبها، ودعا إلى عدم الاكتراث بما يفرّق البشر، من تعصب وتمذهب.

في تأصيله لمشروع السلام الدائم، نراه يحث على تجذير الفكر السلمي في نفوس الخلق منذ الطفولة عبر التربية الأخلاقية، ذلك أن السلام بالنسبة إليه فكرة أخلاقية قبل أن يكون برامج سياسية، لا سيما أن الأخلاق تعمل على تكوين العقل الراشد المستنير.

في سطور مؤلفه الذي بات مرجعاً أممياً للساعين إلى بناء ملكوت السلام على الأرض، نجد أن السلام عنده هو بمثابة المظلة الوحيدة التي تخلق رابط أعظم مشترك لسياسة كونية تستنقذ البشرية من وهدة الصراعات ومآسي الحروب، وهو أمر لا يتعلق بحضارة بذاتها أو أمة بعينها، بل هو دعوة عالمية لكل البشرية من غير تخصيص أو تمييز، ومن دون أي محاصصة قائمة على لون أو عرق أو دين.

حلم كانط في زمانه بمجتمع متكامل قائم على سلام دائم بين الشعوب، وربما كانت الأوجاع والآلام التي عاشتها أوروبا في تلك الأوقات، هي السبب الرئيسي والمباشر في طرحه الفلسفي هذا، والذي صدر في أوقات عصيبة كانت الثورة الفرنسية تحديداً تعصف فيها بالكثير من الثوابت الأوروبية.

الغوص في عمق مشروع «السلام الدائم» لكانط، يجعلنا نتساءل: «هل يمكن بالفعل وعند لحظة زمنية بعينها من تاريخ الإنسانية أن يصبح انتهاء الحرب أمراً حقيقياً واقعياً، وليس حلماً ميتافيزيقياً مخملياً، لا نجد صداه إلا في صفحات المدينة الفاضلة للفارابي ودانتي وليس أكثر؟

الجواب واسع وعميق بدوره، بحسب صفحات مشروع كانط، غير أنه ومن دون اختصار يمكننا التوقف عند بعض المفاصل الجوهرية التي يؤكد بكونها دوافع في طريق الحروب، وليست كوابح.

على سبيل المثال، يرى أن الحروب تنشأ من عند معاهدات السلام نفسها إذا انطوت نية عاقديها على أمر من شأنه إثارة حرب من جديد، فتلك النية المكتومة تجعل من المعاهدات هدنة لا أكثر.

ذهب كانط كذلك في طريق رفض فكرة السطوة الغاشمة القائمة على القوة المسلحة الخشنة، فقد اعتبر أن أي دولة مستقلة، صغيرة كانت أو كبيرة، لا يجوز أن تملكها دولة أخرى بطريق الميراث أو الشراء، ولا حتى الهبة، ناهيك عن الحرب المباشرة، فالدولة مثل الشخص الذي له وحده حق التصرف في نفسه.

وفي حال حصلت حرب ما، فإنه وبحسب منطلقاته، لا يسمح لأي دولة أن ترتكب أعمالاً عدائية كالقتل والتسميم ونقض شروط الاستسلام والتحريض على الخيانة؛ لأن ذلك في حال عودة السلام، يؤدي إلى غياب الثقة المتبادلة بين الدولتين.

يكاد الناظر إلى الأزمنة التي خرج فيها، إيمانويل كانط، على العالم بمشروعه الفكري هذا، أن يوقن بأن هناك تشابهاً كبيراً بينها وبين حاضرات أيامنا، حيث الحروب الإقليمية تشتعل وتنتقل من بقعة جغرافية بعينها، إلى رقعة مجاورة، ومن قارة إلى أخرى. ومن غير تهويل يبدو العالم مرتجفاً في الأيام الأخيرة، وبخاصة بعد أن استهل قيصر روسيا، ولايته الجديدة، بالإعداد لمناورات نووية، وإن بأسلحة غير استراتيجية اليوم، وفيما الغد لا أحد يمتلك الضمان بألا تغادر الصواريخ الاستراتيجية صوامعها؛ ما يعني أن سلام الكوكب الأزرق برمته قد بات في مرمى الخطر بالعين المجردة ومن غير منظار.

من أنفع وأرفع ما يخرج به القارئ لكتاب «مشروع السلام الدائم» استيضاح العلاقة بين الديمقراطية والسلام، فلا يصح التعويل على نشر الديمقراطيات في مناطق تعرف الحروب وعدم الاستقرار.

يعني ذلك أن طروحات الديمقراطية الغنّاء، التي نادت بها قوى كبرى في العقدين الماضيين، تبقى غير ذات جدوى؛ فالسلام سابق للديمقراطية وليس العكس، ومن هنا تعلو صيحة كانط: «إذا كنا نريد تكريس القيم الديمقراطية، فإن السلام هو المدخل الصحيح والمريح لها، فالديمقراطية السامية لا تقوم إلا في ظل سلام عالمي؛ لأن انتفاء وجود السلام، يعني القضاء المبرم على فرص ولادة الديمقراطية، وحال الإصرار على توليدها عنوة، سيجد العالم (سقطاً) بين ذراعيه، لن تُكتب له الحياة ولو ساعة واحدة».

في خطته للسلام العالمي، لم يظهر كانط كمواطن «بروسي»، بل كعالمي، يعلي من شأن العلائق الويستفالية بين الدول عبر الحوار وتفعيله، والجوار ومقتضياته، والحرية ومفاعيلها الخلاقة، وإرادة الشعوب وأهميتها.

هل هذا هو الوقت القيّم الذي يحتاج العالم فيه إلى السعي وراء نموذج كانط من جديد، قبل أن تطبق عقارب الساعة على الحادية عشرة من زمن البشرية؟

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عالم الحروب وسلام «كانط» الدائم عالم الحروب وسلام «كانط» الدائم



GMT 06:02 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 05:58 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 05:54 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 05:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 05:47 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 05:43 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 05:39 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 05:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

عالية ممدوح

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل

GMT 13:13 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

اتفاقية بين مصر وموانئ دبي العالمية لتطوير منطقة حرة عامة

GMT 19:17 2021 الأربعاء ,16 حزيران / يونيو

التشكيل الرسمي لمباراة إنبي والبنك الأهلي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon