لا شكَّ أنَّ القمة العربية الثانية والثلاثون، المنعقدة في مدينة جدة، بالمملكة العربية السعودية، واحدة من أهم القمم في العقود الثلاثة الأخيرة، سيما أنه جرى الإعداد لها بشكل محكم التفكير والتدبير، وبرؤى استشرافية، تهدف إلى رسو سفن العالم العربي على موانئ الأمان، في هذه الأزمنة الهائجة والمائجة، القلقة والمضطربة.
تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، بذلت السعودية جهوداً حثيثة للمّ الشمل العربي قبل انعقاد هذه القمة، وحققت إنجازات واضحة في هذا الملف.
في حديث متلفز مؤخراً له، اعتبر الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط قمة جدة: «بصمة عل الواقع العربي بصفة خاصة»، سيما أنها ستشهد حضوراً متميزاً للقادة والزعماء العرب.
ما يجعل من قمة جدة حدثاً مفصلياً، أنها تأتي في توقيت متميز، بعد عقد من القلاقل التي تسببت فيها موجات الربيع العربي المغشوش من جهة، ثم جائحة «كوفيد - 19» من جهة ثانية، وتالياً الأزمة الروسية الأوكرانية، لتترك أثراً واضحاً على مسيرة العالم العربي بدوره ضمن السياق العالمي. تبدو بصمات ولي العهد الأمير محمد بن سلمان على أعمال القمة، جليةً للقاصي والداني، وهو ما أبرزه العاهل الأردني الملك عبد الله بن الحسين، في حديثه لرئيس تحرير الصحيفة، الأستاذ غسان شربل، التي أعرب فيها عن ثقته بأن الجهد الذي بذله الأمير محمد بن سلمان، وفر إعداداً جيداً، يضمن نجاح هذه القمة التي يحرص الجميع على إنجاحها.
عملت المملكة العربية السعودية خلال الأشهر، التي استبقت القمة، عبر مسارين غاية في الأهمية:
الأول: هو السعي في طريق ترتيب البيت العربي من الداخل، وتعزيز وحدة الصفوف، وبلورة أوجه التعاون المتعددة الجوانب بدءاً من السياسي مروراً بالاقتصادي، ووصولاً إلى ملاحقة الأحوال الدولية المتسارعة على غير هدى.
الثاني: موصول بتهدئة الأجواء الإقليمية، والسعي في طريق استقرار المنطقة، الأمر الذي تمثل في الاتفاق السعودي الإيراني الأخير، الذي يفتح نافذة من الأمل، يمكن من خلالها، التطلع لمرحلة إيجابية في منطقة الخليج العربي، وبقية أرجاء الشرق الأوسط، تسهم في حلحلة الكثير من القضايا البينية والملفات الساخنة المعلقة منذ عقد أو أكثر من الزمن.
تأتي القمة العربية وشعوب المنطقة تتطلع إلى مرحلة من التعاون الاقتصادي، تشبه ما عرفه الأوروبيون باتفاقية الفحم عام 1956، التي مهدت الطريق للاتحاد الأوروبي.
هنا تبدو حظوظ السعودية وافرة، لطرح تصورات عن التكامل الاقتصادي العربي، تمضي جنباً إلى جنب، مع «تصفير» الخلافات السياسية، وقد أحسن العاهل الأردني حين أكد أن التعاون الاقتصادي، يوفر أرضية قوية لمرحلة تضافر عربي خلاق، بحيث تلمس شعوب المنطقة الأثر الإيجابي، مما يحصن المستقبل البيني العربي، من التباينات السياسية، التي قد تظهر بين حين وآخر.
لماذا نتطلع إلى نجاحات قمة جدة الاقتصادية بنوع خاص؟ حكماً لم تعد الجيوش وحدها تمشي على بطونها، كما قال الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت ذات مرة، بل الشعوب كذلك.
في هذا السياق، تتطلع الشعوب العربية لهذا البعد بنوع خاص، سيما في ضوء ما يعتري الاقتصاد العالمي من تقلبات وتغيرات مخيفة، عطفاً على المشهد الضبابي الخاص بالديون الدولية، أما عن أوضاع الاقتصاد الأميركي، وأزمة سقف الديون فحدث ولا حرج. هنا ربما يضحى التعاون الاقتصادي، الفريضة الغائبة، التي يلزم السعي لأدائها، عبر خطوط طول وخيوط عرض، لتفاعلات اقتصادية بين الدول العربية، وربما دول الجوار، درءاً للمجهول القادم من الغرب، وحفاظاً على رؤوس الأموال والاستثمارات العربية الواسعة حول العالم، وقبل أن تستيقظ شعوب المنطقة على ألاعيب وحيل اقتصادية، لا تخطئها العين، تصيب عالمنا العربي في سويداء القلب اقتصادياً أول الأمر، مما يسمح تالياً بتنفيذ بقية الاستراتيجيات التي تسعى مؤخراً للعودة من النافذة، بعد أن تم طردها من الأبواب.
هل يعني ذلك أنَّ السياسة ليس لها موقع أو موضع على طاولة الزعماء العرب في قمة جدة؟
من نافلة القول، إن السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة، وهناك العديد من الملفات السياسية العربية، والشرق أوسطية، بجانب الدولية، التي تطرح نفسها بنفسها. البداية دوماً من عند فلسطين، قضية العرب المركزية عبر عقود ثمانية خلت وحتى الساعة. والشاهد أنه في ظل ما يتعرَّض له الشعب الفلسطيني في الداخل من امتهان لكرامته، وما يجري على الأرض من محاولات لتهويد المدن الفلسطينية، وفي المقدمة منها القدس الشريف، ومع التوسع الاستيطاني، وكذا في ظل انعدام الأمن والأمان داخل المدن الإسرائيلية ذاتها، تبقى هناك الحاجة الماسة لإعادة قراءة مبادرة السلام العربية التي طرحتها السعودية في مؤتمر القمة العربية في بيروت عام 2002، والفرصة الثمينة التي ضيعتها إسرائيل وقتها، ولو قبلت ساعتها لتغيرت الأوضاع وتبدلت الطباع.
يلتئم شمل قمة جدة، وهناك في الجسد العربي جرح ثخين جديد، ومن أسف شديد، ذاك الموصول بالسودان، البلد العربي الشقيق. تبدو هناك حاجة ضرورية وسريعة لتدخل عربي – عربي، لإعادة ضبط المشهد السوداني، قبل أن ينفلت الأمر ليصيب الأمة العربية عبر مسارين، كلاهما أسوأ من صاحبه:
- التدخل الأجنبي المسلح، وعبر منظومات القوة الخشنة، للأقطاب الدولية المتصارعة، مما يجعل الاستعمار المسلح حقيقة عائدة وقادمة من جديد.
- تحول السودان إلى مرتع وحاضنة للإرهاب الدولي، وسط الفوضى الجارية هناك، بالضبط كما حدث في العراق قبل عقدين.
يراهن الكثيرون على قمة جدة، للخروج بمقررات تساعد طرفي النزاع في السودان من أجل وقف دائم لإطلاق النار وفتح ممرات إنسانية، والجلوس على طاولة المفاوضات قبل القارعة.
تعود سوريا في قمة جدة، لتشغل مقعدها الذي غادرته قبل اثنتي عشرة سنة، عانى فيها الشعب السوري أسوأ معاناة، وتفككك نسيجه المجتمعي بعد أن تفتت.
تضيق مساحة الكتابة عن التفصيلات والقضايا المطلوب من القمة مواجهتها، وفيها قضايا جوهرية، لا سيما أوضاع اليمن، وإشكالية سد النهضة، وعدم الرغبة من الجانب الأثيوبي في معالجة هذه القضية.
غير أنه ورغم كل تلك العقبات، فإن أولي العزم من القادة العرب، وفي مقدمهم خادم الحرمين الملك سلمان، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، يؤمنون بأن الضوء مشرق في نهاية النفق، وأنه لا بد لغيوم المنطقة من أن تنقشع، ليستهل العرب عهداً من التجديد والتغيير.