بقلم - إميل أمين
يوما تلو الأخر تثبت الدبلوماسية السعودية ، قدرتها على تحقيق نجاحات حقيقية ، لا على الصعيد الإقليمي فحسب ، بل على الصعيد العالمي برمته .
نجحت المملكة في التوصل إلى إتفاق هدنة بين الفصائل اليمنية المتصارعة ، هدنة لاقت ترحيبا من كافة الدوائر السياسية والدبلوماسية العالمية ، وتسعى القيادة السعودية جاهدة لتثبيت تلك الهدنة ، لخير الشعب اليمني، وتجنب المزيد من إشتعال الأزمات في المنطقة ، ناهيك عن تفويت الفرص على القوى المناوئة للإستقرار، والراغبة في صب المزيد من الزيت على النار .
تخبرنا ابجديات العلوم السياسية ، كيف أن الوساطات تعتبر إحدى أهم الأدوات التي عرفتها الدبلوماسية الحديثة حول العالم ، لا سيما منذ عهد الدولة الويستفالية في منتصف القرن السابع عشر ، والتي غالبا ما يلعب فيها طرفا ثالثا ، وسيطا طيبا ، بين طرفين متخاصمين ومتناحرين ، وقد يطول بهما ويشتد الصراع ، وتتفاقم الخسائر ، والقاعدة المعروفة في سياق المواجهات الدولية أنه عندما تسيل الدماء تتعذر المصالحة ، وقد أحتلت الوساطات دورا تاريخيا في مجال حل النزاعات الدولية .
تستمد الوساطة قوتها وقدرتها ، في واقع الأمر من مكانة ونفوذ الوسيط ، أدبيا وأخلاقيا أول الأمر ، ثم إعتباريا وتاليا بقدر ما تسمح له أوضاعه اللوجستية .
عرف التاريخ منذ القديم وساطات عديدة ، كما أن الشرق الأوسط ، وبخاصة خلال فترات النزاع العربي – الإسرائيلي ، في سبعينات القرن الماضي ، شهد بدوره محطات مهمة على أدوار وساطة ، خفضت من حدة التصعيد وإحتمالات إندلاع حروب ، كما فعل وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية هنري كيسنجر ، بين مصر وإسرائيل ، تلك الوساطة التي قادت تاليا إلى إتفاقية كامب ديفيد .
وفي أوائل تسعينات القرن المنصرم ، نجحت بعض الدول الأوربية ، وفرنسا على رأسها ، في جمع الفلسطينيين والإسرائيليين على مائدة المفاوضات ، ومن هناك ولدت إتفاقية أوسلو .
والشاهد أن العالم ، ومن غير تهويل أو تهوين ، قد أنتبه جيدا الأيام القليلة الماضية ، للنجاحات التي أستطاعت المملكة العربية السعودية إنجازها ، ومن خلال قيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ، بهدف التوصل إلى بارقة أمل ، في مسار ومسيرة صراع ، لا يعلم الإ الله وحده ، إلى أين يمكن أن يذهب بالبشرية ، وبخاصة في ظل التهديدات النووية التي لا تنقطع ....ونعني الصراع الروسي – الأوكراني .
نجحت وساطة ولي العهد الأمير محمد ، في الإفراج عن عشرة أسرى لدى روسيا ينتمون لجنسيات بريطانية وأمريكية ، عطفا على مغربي وكرواتي وسويدي .
بيان وزارة الخارجية السعودية ، أشار إلى أن عملية التبادل جاءت في إطار جهود ولي العهد في تبني المبادرات الإنسانية تجاه الأزمة الروسية – الأوكرانية ، وبفضل المساعي المستمرة لولي العهد مع الدول ذات العلاقة .
الذين تابعوا أخبار ما بعد الوساطة الناجحة ، لا سيما تصريحات أهالي المفرج عنهم ، يلمسون قدر الإمتنان الكبير والعميق للمملكة وسياساتها وولي عهدها ، وعظيم تقديرهم للجهات السعودية المعنية التي قامت بتسلمهم من روسيا ، ومضت بهم إلى المملكة ، ومن بينهم أم أمريكية ، تحدثت وعلامات السعادة تعلو وجهها للتلفزة الأمريكية ، عن المعاملة الإنسانية الراقية التي لقيها أبنها في المملكة ، وتلبية كافة رغباته المشروعة ، وتسهيل إجراءات عودته إلى الولايات المتحدة الأمريكية .
بدت الدبلوماسيات الدولية العريقة الأيام القليلة المنصرمة ، في حال إنبهار بقدرات الدبلوماسية السعودية ، لا سيما أنه في الوقت التي يتشدد فيه القيصر الروسي فلاديمير بوتين ، وإلى أبعد حد ومد ، ويهدد الناتو بإستخدام السلاح النووي ، تنجح المملكة عبر قنواتها الرسمية في الإفراج عن أسرى ، حكما كان مصيرهم الهلاك المحقق.
يستلفت النظر في المشهد عدة نقاط ، من أهمها وفي مقدمها ، حرص ولي العهد الكامل والشامل على المشاركة السعودية الإيجابية والخلاقة حول العالم ، في إطار نشر المودات وإفشاء السلام ، ومحاولة حل الأزمات السياسية بروح إنسانية ، لا من خلال إملاءات فوقية إمبريالية ، تأتي حكما بنتائج سلبية ، وتقود إلى المزيد من حزازات الصدور .
ولعل المتابع لتصريحات ولي العهد الأمير محمد لقناة فرانس 24 ، يدرك كيف أن البناء التراكمي دبلوماسيا وإنسانيا ، إقتصاديا ومعرفيا ، بين الرياض وموسكو ، قد بلغ مرحلة تسمح بقطف ثمار نضوج العلاقات الثنائية ، ليس هذا فحسب ، بل إلى أبعد من ذلك ، إذ يؤكد الأمير محمد بن سلمان على إستعداده لبذل المزيد من جهود الوساطة .
تبدو المسيرة الثنائية بين المملكة العربية السعودية وروسيا الإتحادية ماضية قدما ، الأمر الذي يفيد بذكاءات القائمين على تنسيق الخيوط وترتيب الخطوط الحاصة بالعلاقات الخارجية السعودية ، والتي تجيد ضبط المسافات بين العوالم والعواصم ، وتنفتح بمودة ويقين كاملين على ست قارات الأرض ، من غير محاصصة أو إنحياز ، بل عبر تفهم لأبعاد العالم القادم ، عالم التعددية القطبية ، لا الثنائية التقليدية .
الرئيس الروسي بوتين ، وفي تعقيب لاحق لنجاح الوساطة السعودية ، نوه بإنضمام المملكة لمنظمة شنغهاي للتعاون بصفة شريك حوار ، مؤكدا تطلع الأعضاء لمساهمة المملكة الفاعلة في أعمال المنظمة ، ما يعزز مكانة المملكة على صعيد رسم الخرائط الجيوسياسية في الحقبة الزمنية المعاصرة وما يليها .
حين يوجه مستشار الأمن القومي الأمريكي ، جاك سوليفان ، شكره لولي العهد السعودي عبر تويتر ، مرحبا بالوساطة السعودية ، فإن ذلك يعني إقرار بواقع أمر مهم وحساس ، وهو وضعية المملكة الويستفالية المستقلة ، القادرة على تفعيل أدواتها الدبلوماسية ، بمهارة فائقة ، بين الشرق والغرب ، وما ينتظرها في قادم الأيام .
وفي التفاصيل يجد المحلل المحقق والمدقق للشأن السعودي أمرا تتميز به المملكة ، مستمدا من عمق روحها الإيمانية والوجدانية ، الإستعانة بالكتمان في قضاء الحوائج، لا سيما الإستراتيجية منها ، فقد جرى التحضير لاتفاق الأسرى عبر بضعة أشهر خلت ، ولم يدر أي من المجتمع الدبلوماسي في الإقليم بأخبارها ، ولهذا كتب لها النجاح .
هل من خلاصة ؟
لن يدهش المرء إذا نجحت الوساطات السعودية عما قريب تجاه ما هو أبعد ...النصر لأصحاب النوايا الطيبة في نهاية الأمر .