يوما تلو الآخر، بل ساعة تلو الأخرى، تبدو إيران على فوهة بركان، لا سيما في ظل تعاظم حركة الاحتجاجات الشعبية الداخلية، وإن كان ذلك لا يعني أن نظام الملالي سوف يقصر في استخدام القوة الغاشمة، في مواجهة ما يجري.
ما الذي يهم النظام الحاكم في إيران بالدرجة الأولى الحفاظ على كيان الدولة، أم بقاء الثورة؟
المؤكد أن إيران الرسمية لم تحر بعد جوابا على هذا السؤال، وإن كان الغالب الأعم هو أن سعيها للحفاظ على الثورة، يأتي في الدرجة الأولى، ومن هنا يدرك المرء أنها وعند الخط الأحمر، سوف تبطش بشعبها في الداخل، ما لم يحدث تمرد داخل صفوف الحرس الثوري، وقوات النخبة، وهذا يبدو احتمالا ضئيلا.
يعن لنا التساؤل بداية هذه السطور: "هل من اليسير هذه المرة أن تقمع السلطات الإيرانية شباب المحتجين؟"
يلفت النظر في التظاهرات الإيرانية الأخيرة، أن رقعتها تتسع يوما تلو الآخر، وباتت تنتقل إلى مناطق تجار البازار، أولئك الذين لعبوا دورا مهما في سقوط نظام شاه إيران خلال الثورة الإسلامية عام 1979.
أضف إلى ذلك أن وسائط التواصل الاجتماعي، باتت تلعب دورا تقدميا في تنسيق الاحتجاجات، وتبدو حكومة الملالي في مأزق حقيقي من جراء التعاطي مع التكنولوجيا الحديثة، خاصة في عالم التواصل المجتمعي.
هنا وعلى الرغم من أن النظام الإيراني عادة ما يقوم بقطع خطوط الإنترنت، في محاولة لإخماد جذوة التظاهرات، وقد دأب دوما على وقف عمل فيسبوك وتويتر، إلا أن أسبابا داخلية تتعلق بحركة التجارة والبيع والشراء في أسواق البلاد، دفعت لتخفيف القبضة الحديدية على تطبيقين رئيسيين هما "كلوب هاوس" و"إنستغرام"، ومرد ذلك استعانة التجار بهما ونشر إعلانات من خلالهما، وبالتالي فإن تعطيل عمل تلك التطبيقات يعني المزيد من الضائقة الاقتصادية، خاصة في ظل العقوبات الاقتصادية المفروضة على الإيرانيين.
على أن تلك التظاهرات وكلما اشتدت طرحت علامات استفهام مثير للجدل من جهة، ومدعاة للحيرة من ناحية ثانية.. فعلى سبيل المثال، هل جاءت تلك الحركات الاحتجاجية لتعطي الملالي وازعا وذريعة عند أتباعهم تعزز من حضورهم، انطلاقا من أن أعداء الثورة الإسلامية وأعداء النظام هم من يشعلون تلك الحركات الضالة والمضللة؟
قد يكون هذا واردا بشكل أو بآخر، غير أن هناك على ما يبدو أمرا آخر أشد خطورة، ومصول بمسارين:
الأول: هو مسار المباحثات النووية مع الغرب وبالتحديد موقف إدارة بايدن من العراقيل التي تضعها طهران، بهدف تسويف الوقت.
الثاني: هو استغلال الملالي للقلاقل الحادثة في الداخل الإيراني والاستفادة منها كستار تقوم من ورائه بتخصيب المزيد من اليورانيوم، ومن وراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وبنسب تتجاوز الـ60%، ما يعني أن القنبلة النووية الإيرانية باتت على الأبواب.
لم يكن سرا أن النظام الإيراني ماض في طريق تسويف الوقت، وقصده عدم الدخول في مفاوضات مع إدارة بايدن، قبل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس.. لماذا؟
الغرض واضح، وهو انتظار أن يمنى الحزب الديمقراطي بهزيمة ساحقة، وأن يكتسح نظيره الجمهوري الكونغرس بمجلسيه، الشيوخ والنواب، وبذلك تتهز مكانة بايدن وإدارته، وساعتها ربما يسعى رجل البيت الأبيض لتقديم المزيد من التنازلات للإيرانيين، بهدف محاولة تحسين صورته في أعين الناخبين خلال الانتخابات الرئاسية 2024.
لكن وعلى الجانب الآخر، هل إدارة بايدن بدورها باتت غير مهتمة بالتوصل إلى اتفاق مع الملالي، على أمل أن تقوم التظاهرات الداخلية هذه بإسقاط حكام طهران، بالضبط كما فعل أنصار الخميني حين أسقطوا الشاه في نهاية سبعينات القرن المنصرم؟
في تصريح مباشر له يقول الرئيس بايدن إنه "مندهش" إزاء الاحتجاجات الجماعية في إيران التي تشهد أكبر موجة تظاهرات منذ سنوات.
بايدن وخلال كلمة في إحدى كليات مدينة إرفاين في ولاية كاليفورنيا أضاف: "أريدكم أن تعلموا أننا نقف إلى جانب المواطنين، ونساء إيران الشجاعات"، وأكمل بالقول: "إن تلك التظاهرات أيقظت شيئا لا أعتقد أنه سيتم إسكاته لوقت طويل بل وطويل جدا".
قد تبدو الكلمات ظاهريا غير ذات جدوى، لكن هناك من يراهن على أن إدارة بايدن بدورها، والتي تدعم وتزخم تلك الحركات عبر أذرع سرية، ترى فيها فرصة طيبة للضغط على الملالي، وذلك انطلاقا من إظهار تأثير العقوبات الموقعة على طهران، والتي تقود إلى تأزيم كافة مناحي الحياة في إيران، اجتماعيا واقتصاديا، بل وسياسيا.
الرهان الأميركي يقودنا إلى التساؤل الأهم: "هل ستنجح تلك التحركات في زعزعة كراسي الملالي؟".
غالب الظن أن الأمر لا يمكن أن يكون على هذا النحو من التبسيط، حتى وإن كان مسمار ما قد تم دقه في نعش نظام الثورة الإيرانية.
تخسر واشنطن إذا راهنت على تحركات الداخل فقط، فيما عمليات تخصيب اليورانيوم تجري على قدم وساق، فقد أظهر تقرير سري للوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران تمضي في توسيع عمليات تخصيب اليورانيوم، باستخدام أجهزة طرد مركزي متطورة.
التقرير السري للوكالة، والذي جاء في توقيت تتعثر فيه المفاوضات وتزداد حركة الاحتجاجات، يظهر أن إيران قد أدخلت إلى الخدمة عددا كبيرا من أجهزة الطرد المركزي المتطورة التي يحظر الاتفاق النووي، الموقع مع القوى الست الكبرى عام 2015، استخدامها في إنتاج اليورانيوم المخصب.
هذه الأجهزة أكثر كفاءة بكثير من الجيل الأول (أي-أر-1)، وهو جهاز الطرد المركزي الوحيد الذي يسمح به الاتفاق النووي لإيران باستخدامه لتنمية مخزونها من اليوارنيوم المخصب. وتقوم إيران حاليا بتركيب هذه الأجهزة في موقعين على الأخص تحت الأرض في منشأة ناطانز وفوردو، واللتين تحتملان قصفا جويا متوقعا، لا سيما من جانب إسرائيل.
هل من خلاصة؟ بعيدا عن الفكر التآمري، يكاد المرء يقطع بأن واشنطن لا تود أن ينهزم الملالي، بل أن يظل مشروعهم قائما وقادما، كفزاعة للمنطقة، ولو وجدت إرادة سياسية أميركية حقيقية، لكان المشروع النووي الإيراني، قد تم وأده منذ زمان وزمانين... إنه حلف المصالح المشتركة من طهران مرورا بتل أبيب وصولا إلى واشنطن، وعلى غير المصدق أن يرى تطورات المشهد العراقي، وكيف سلمت واشنطن بغداد لطهران، وعلى طبق من ذهب وليس فضة.