مع سقوط الاتّحاد السوفيتي في نهاية ثمانينات القرن المنصرم، وانفراد الولايات المتحدة الأميركيّة بمُقَدَّرات العالم، أطلق الرئيسُ الأميركي وقتَها، جورج بوش الأب، تعبير "النظام العالمي الجديد". وغالب الظنّ كان القصد من ورائه القول النظام الأميركي الجديد الذي يحكم العالم، إذ لم يكن هناك ندٌّ أو منافسٌ للقوة الأميركية المهيمنة على مقدرات الأمور عالميًّا.
بلغت الرغبة الأميركية في السيطرة على المُقدَّرات العالمية حدَّ قيام جماعة المحافظين الجدد بعد بضعة أعوام، وبالتحديد في سنة 1997 برسم ملامح القرن الحادي والعشرين، ضمن الوثيقة الأشهر "القرن الأميركيّ"، وفيها كان من الواضح أن هناك من يحاول قطع الطريق على عودة روسيا إلى السماوات الدولية من جهة، ووقف نمُوّ التنين الصيني الزاحف حول العالم من جهة ثانية.
على أنه من "حكمة الأقدار"، أن الحياة لا تقبل فكرة الأحادية، فقد جُبِلت الخليقة على الثنائية منذ لحظات الخلق الأولى، ليل ونهار، ضوء وظلام، صباح ومساء، شرّ وخير، الأمر الذي امتد عبر الأجيال على حركة الإنسانية وقيام الأمم والممالك، وظهور الإمبراطوريات واضمحلالها، من عند الفراعنة والآشوريّين، الفرس والروم، الإنجليز والفرنسيّين، الإسبان والبرتغاليّين، ثنائيات سادت وبادت، ومعها ظلت البشرية تدور كلٌّ في فلك يسبحون.
لن يُقَدَّر لهذه الأحادية أن تعمر طويلاً، فما هي إلا ثلاثة عقود، إلا وبدا أن هناك توجُّهًا لتيار عالمي مغاير عن فكرة الأحاديّة، وينحو نحو عالم مغاير، يقفز فوق الثنائية أيضًا، وساعيًا لتشكيل عالم متعدد الأقطاب، يقف لواشنطن بالمرصاد... ماذا عن هذا العالم؟
من اليسير القول إنّ روسيا الدولة النووية القائمة كما العنقاء من الرماد، في مُقَدِّم هذا العالم الجديد، وبالقدر نفسه يمكننا اعتبار الصين ركيزةً أساسية في المشهد العالمي الجديد، غير أن واقع الحال يشير إلى أن القصة أكثر اتّساعًا من موسكو وبكين، حيث لاعبين أمميّين آخرين قادمين حكمًا للشراكة في تشكيل عالم جديد، غير أميركي بكل تأكيد وتحديد، وإن بقيت الولايات المتحدة طرفًا فاعلاً ومؤثِّرًا فيه.
يمكن النظر إلى شكل العالم الجديد عبر صعيدَيْن، الأول اقتصاديّ، والثاني عسكريّ، وبينهما تظلُّ هناك مساحات واسعة وشاسعة لتناقضات أمميّة سياسية، لا يمكن أن تختفي بين عشية وضحاها.. ما الذي نعنيه بهذا الحديث؟
باختصار غير مُخِلٍّ، تتشكل في الأفق ملامحُ لعالم اقتصاديّ مغاير لنظام "بريتون وودز"، ذاك الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، وقوامه المؤسسات الدولية، لا سيما البنك والصندوق الدوليَّيْن، ومنظمة الأمم المتحدة.
من أهم علائم هذا النظام الاقتصادي التخلّي عن الدولار، كملك مُتَوَّج على عرش العملات العالمية، والأداة الرئيسية للتجارة الدولية.
نعم، ربما لن يكون التخلي يسيرًا عن الدولار، لكن حين تتفق دول كبرى مثل الهند والصين وروسيا وبقية مجموعة البريكس بلس، على استخدام العملات المحلية، فساعتها يمكن التساؤل إلى متى يظل الدولار هو السيد والسند المُعَضِّد للهيمنة الغربية وتحديدًا الأميركية الدولية؟
أما على الجانب العسكري، فمن الواضح للغاية أن حرب أوكرانيا والدور الأميركي الداعم لنظام كييف، قد أطلق "بوق القرن"، لدى الصين بنوع خاص، ولم يَعُدْ سرًّا أنها بجانب اهتماماتها ببناء جيش مُسلَّح بأسلحة تقليدية كثيفة، تمضي في اتجاهَيْن: الأول يتعلق بفكرة بناء حاملات الطائرات والقِطَع البحرية العملاقة، حتى تشارك وبقوة في سياقات المنافسة على البحار والمحيطات، والثاني موصول بالقوة العسكرية النووية، وهنا نجد أن الصين تسعى جاهدة مع نهاية العقدالجاري، أي بحلول 2030 أن يكون لديها ترسانة نووية تتجاوز الألف صاروخ باليستي مُزوَّد برؤوس نووية، كمكافئ موضوعي للولايات المتحدة من جهة، ولروسيا من جهة ثانية.
والثابت أنه ما بين الصين وروسيا، تمضي الهند بقوة وثبات، في الشراكة العالمية، سيّما أنّ مؤشراتها الديموغرافية، سوف تتجاوز روسيا مع منتصف هذا القرن، ناهيك عن حضورها كقوة نووية عالمية من جهة، وقوة اقتصادية متَّقدة، وبخاصة على صعيد التكنولوجيات المُتعطِّش لها عالمُنا المعاصر من جانب آخر.
أحد الأصوات الذين شاغبوا فكرة التعدديّة القطبية مؤخرًا "أدريا كيندال، وريتشارد فونتين"، عبر مجلة الفورين آفيرز ذائعة الصيت، وقد تساءلا: "هل يشهد العالم محورًا رباعيًّا مُهدِّدًا للهيمنة الأميركية؟
الرباعي المشار إليه يتكون من روسيا والصين، إيران وكوريا الشمالية، الأمر الذي يستدعي تساؤلاً حول المواصفات التي تتمَتَّع بها طهران وبيونغ يانغ، وكيف لهما أن تساهما في تشكيل رباعي عالمي جديد قادر على أن يختصم من النفوذ الأميركي، ذاك الذي لم يُصَدّ ولم يُرَدّ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ورغم الحرب الباردة التي دامت أربعة عقود تقريبًا، وانتهت بتتويج أميركا على قمة العالم؟
يقدم الكاتبان الأميركيان مثالاً لخطورة هذا الرباعي، من خلال ما جرى في الصباح الباكر من الثاني من يناير الماضي، وذلك حين شَنَّت القوات الروسية هجومًا صاروخيًّا ضخمًا على مدينتَيْ كييف وخاركيف الأوكرانيتَيْن، مما أسفر عن مقتل وإصابة عدد كبير من المدنيّين، وإلحاق الضرر بالبنية التحتيّة بشكل هائل.
لم يكن هذا الحدث بارزًا بسبب الضرر الذي سَبَّبَه وحسب، بل أيضًا لأنه أظهر أن روسيا ليست وحدها في معركتها.
وفي الواقع نُفذ الهجوم الروسي في ذلك اليوم بأسلحة مُزوَّدة بتكنولوجيا من الصين وصواريخ من كوريا الشمالية وطائرات مُسَيَّرة من إيران، فعلى مدى العامَيْن الماضيَيْن تحولت الدول الثلاث إلى عناصر دعم حيوية في آلة الحرب الروسية في أوكرانيا.
ما الذي يعنيه هذا الشكل من أشكال التعاون الرباعيّ؟
باختصار غير مُخِلّ، يعني أنه قادر على تغيير الصورة الجيوسياسية العالميّة، حتى ولو ظَلَّت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها من الناتو، أو مَنْ هم خارجه على مقدرة كبرى من الإمساك بزمام المشهد الدولي حتى الساعة، مع الأخذ في عين الاعتبار احتمالات التعديل والتبديل في مربعات النفوذ الدولي عما قريب.
هل يعني هذا الرباعيُّ أن أصدقاء القيصر الروسي فلاديمير بوتين، يسعون حقًّا إلى قلب النظام العالمي الأحادي التوجه، أي النظام الأميركي؟
من الواضح جدًّا أنَّ الروس يدركون تمام الإدراك المحاولات الحثيثة التي يقوم بها الناتو، برأس حربة أميركية، من أجل عزل روسيا وبوتين تحديدًا، سِيَّما أن فكرةَ هزيمة دولة نووية أمرٌ غير وارد بالمرة.
في هذا السياق، تجري المقادير الدولية بقراءة في المعكوس، من خلال استخدام قوى إقليمية مثل إيران وكوريا الشمالية، في الاختصام من مُقَدَّرات القوة القطبيَّة الأميركية، وسواءٌ جرى ذلك من خلال وكلاء الحروب كما في حال أتباع إيران، أو التهديد النووي والصاروخي الباليستي كما تفعل كوريا الشمالية في آسيا مُهدِّدة الحضور الأميركي التقليدي لا سيما في اليابان.
عطفًا على ما تقدم، بات في حكم المؤكَّد أن اللاعبين من الأطراف غير الدولية قد أضحَوْا شريكًا فاعلاً في صناعة عالم متجاوز لفكرة القطبية من الأصل. ماذا عن هذا؟