حين يدلف الرئيس الأميركي المنتخَب دونالد ترمب إلى مكتبه في البيت الأبيض، نهار الحادي والعشرين من يناير كأوّل يوم عملٍ له بعد تنصيبه في العشرين من الشهر عينه، ستكون الحرب الروسية–الأوكرانية قد اقتربت من عامها الثالث، وباتت تُصنَّف كأكبر صراع تقليديّ منذ الحرب العالميّة الثانية، مع إمكانية تصعيدها بشكل أكبر.
سوف يجد ترمب على مكتبه ملفًّا يُعَدُّ ذا أولويّة خاصة، وعليه التعاطي معه كالطبيب النطاسي، أملاً في قطع الطريق على آخر الأدوية وهو الكيّ، الذي يعني المزيد من اشتعال المشهد حول الكرة الأرضيّة.
لا يبدو أن هناك حتى الساعة طرفًا منتصرًا بشكل نهائيّ، فروسيا التي استأنفت العمليات القتالية الهجومية، تبدو متألّمة إلى أبعد حدٍّ ومدّ، من جرّاء العقوبات الاقتصاديّة والاستنزاف الماليّ العسكريّ، وبات الدولار محلّقًا في مقابل الروبيل، ما يعني تصاعد الشكاوى من رجل الشارع الروسي، الأمر الذي ينذر بتراجع واسع لشعبيّة بوتين.
وعلى الجانب الآخر، وعلى الرغم من مناوشة أوكرانيا لروسيا بالصواريخ بعيدة المدى، إلا أن جمهور العسكريين يقطعون بأنها لا يمكن بحال من الأحوال أن ترجع الأراضي التي قضمتها روسيا، فيما تظلّ ردّات الفعل الروسية خطيرة إلى درجة مرعبة، لا سيّما بعد استخدام بوتين صواريخ بالستيّة مدمّرة من نوعية "أوريشنيك"، في هيئته التقليدية، وليس هناك ما يمنع من أن يُحمَّل برؤوس مغايرة حالة سخونة الرؤوس، كيماويّة، بيولوجيّة، أو نوويّة.
يتساءل المراقبون للمشهد الرئاسيّ الترمبيّ القادم: "هل هناك أولوية تستبق مهمة إنهاء الحرب في أوكرانيا، أو على الأقل وقف إطلاق النار عبر هدنة طويلة، يمكن خلالها للمفاوضات أن تحدث فارقًا في المواقف، وبما ينهي شبح دخول العالم في مواجهة نووية لا تصدُّ ولا تردّ؟
المؤكَّد أن أول بل وأخطر مهمّة تواجه الرئيس الأميركي الجديد ترمب في المائة يوم الأولى، هي وقف هذه الحرب، عبر إقناع الطرفين بأنّها لم تَعُدْ في صالح أيٍّ منهما، وأنه من الأجدر بهما وقف نزيف الدماء والأموال، ورفع يد التهديد بحرب كونية عن بقية أرجاء العالم.
لقد وعد الرئيس المنتخَب في مايو/ أيار بأنه إذا انتُخِبَ فسوف ينهي الحرب في أوكرانيا في يوم واحد، وبعد فوزه الساحق، لا يزال يكرّر الوعد نفسه، الأمر الذي يعطي فسحة كبيرة من الأمل، غير أن الأمر ربّما ليس على هذا القدر من السهولة واليسر. لماذا؟
بحسب البروفيسور "مايكل ماكفول" أستاذ العلوم السياسية في جامعة ستانفورد العريقة، والذي شغل منصب السفير الأميركيّ في روسيا في الفترة ما بين 2012 إلى 2014 أن الظروف قد لا تكون مواتية على الأرض، حيث الفارق شاسع بين إطلاق الوعود الغَنَّاء، وبين القدرة على تنفيذها في عالم الحقائق المتعثرة.
يعتبر ماكفول أن الحروب عادة تنتهي بطريقَيْن لا ثالث لهما: إمّا فوز أحد الجانبين، أو الوصول إلى طريق مسدود.
في الصراع الأوكرانيّ، لا يبدو أن أيًّا من الجانبين يقترب من النصر المبين، ولهذا لم تتوقَّفْ الحرب حتّى الساعة.
من جهةٍ، يظن بوتين أنه الفائز، لكن الواقع يقول إن فوزه المطلق شبه مستحيل، ذلك أن الناتو لن يسمح بذلك؛ إذ لو حدث، فإن الأمر ربّما يفتح شهيّته لإكمال المسيرة تجاه دول أخرى في أوروبا الشرقية، وقد ينتهي به الحال في برلين، أي عمق أوروبا الغربيّة.
ومن جهةٍ أخرى، فإن زيلنسكي يبدو مدفوعًا بشكلٍ قسريٍّ، للمُضِيّ قُدُمًا إلى نهاية الطريق، لكن الشروع في المسير العسكري من جديد أمر يعني أنه لا بدّ من قيام واشنطن وبقيّة العواصم الأوروبيّة، من دفع المزيد من الأكلاف الملياريّة كوقود لحرب تبدو عبثيّة ولا بدَّ من نهايتها عند نقطة معيَّنة.
هنا تبدو إشكالية التمويل أحدَ أهم الأسباب التي تجعل ترمب راغبًا في وقف هذه الحرب، وهو ما يدعمه من ورائه الحزبُ الجمهوريّ الذي يتساءل كبار أعضائه عن الفائدة من إنفاق مليارات الدولارات التي يحتاجها الواقع الأميركيّ، في ظلّ أرقام دَيْن عام تبلغ 35 تريليون دولار، وما يناهز 40 مليون أميركيّ تحت خطّ الفقر، الأمر الذي يعني أن طبقات المجتمع الأميركي غير مرتاحة لبعضها البعض، ويكفي النظر لمشاهد الفقراء على طرقات كبريات المدن الأميركية من نيويورك شرقًا إلى لوس أنجلوس غربًا.
هل من أمر آخر يجعل من إنهاء الحرب الروسية–الأوكرانية فرض عين على الرئيس ترمب؟
باختصارٍ غير مُخِلّ، لا تبدو روسيا بحالٍ من الأحوال عدوًّا في عقل ترمب، وهو أمر مقطوع به، ومن غير التصديق بأن الرجل عميل للكرملين، بحسب ادعاءات العديد من الأبواق الديمقراطية.
أما المؤكد إلى حدّ اليقين الكامل، هو أن صراع ترمب الحقيقي العقلي والنقلي، مع الصين التي يراها المهدِّد القائم والقادم للقطبيّة الأميركية المنفردة بمقدرات العالم من جهة، ولفكر "أميركا العظيمة"، من ناحية أخرى.