توقيت القاهرة المحلي 11:59:47 آخر تحديث
  مصر اليوم -

السيولة الجيوسياسية والأزمنة الغرامشية

  مصر اليوم -

السيولة الجيوسياسية والأزمنة الغرامشية

بقلم - إميل أمين

كيف يمكن للمراقب السياسي المحقق والمدقق، أن يصف أوضاع العالم، في الأوقات الأخيرة، لا سيما في ظل حالة السيولة الجيوسياسة المتجلية في زوايا الأرض الأربع، وبعد نحو ثلاثة عقود، من تصور لنظام عالمي أحادي التوجه، بقيادة أميركية منفردة، وبعد شبه استقرار أممي، مكنت له توازنات القوة ما بين حلفي وارسو والناتو؟

لا يحتاج الأمر لذكاء فائق حتى يدرك أن هناك توزيعات وتنويعات للقوة، تحدث فوق سطح البسيطة، وليس أدل على تغير المشهد العالمي مما جرى خلال الأيام القليلة الماضية في كامب ديفيد بولاية ميرلاند الأميركية، ذلك اللقاء الذي جمع الرئيس الأميركي ورئيس كوريا الجنوبية، ورئيس وزراء اليابان، والذي اعتبرته الكثير من الدوائر الدولية، إرهاصات لتوسع الناتو، أو ما بات يعرف بالناتو الآسيوي.

من ناحية ثانية، وخلال اليومين القادمين، سوف يلتئم شمل دول مجموعة البريكس، في جوهانسبرج بجنوب إفريقيا، بهدف لا يغيب عن أعين الجميع، وهو البحث عن تحالف دولي جديد، يخفض من انفراد الغرب بالمقدرات العالمية.
هل أصاب الفيلسوف الإيطالي انطونيو غرامشي كبد الحقيقة في تحليله لتغير المجتمعات حين قال: "تتجلى الأزمة تحديدا في أن القديم آيل إلى الزوال، بينما لا يستطيع الجديد أن يولد، وفي فترة التريث هذه، يبرز عدد كبير من الأعراض المرضية"... هل اليوم شبيه بالأمس، وهل حاضرات أيامنا نسخة مكررة مما جرى بعد الحرب العالمية الثانية؟
لم يعد عالمنا المعاصر مشابها لما كانت عليه الكرة الأرضية عشية انتصار دول الحلفاء على الفريق المنافس لهم أي دول المحور، والمتضمن ألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية، بالإضافة إلى اليابان الإمبراطورية.

في ذلك الوقت لم يكن العالم قد شهد العديد من التطورات التكنولوجية، لا سيما وسائل الاتصالات الحديثة، والأقمار الاصطناعية التي جعلت الكون قرية كونية واحدة، فقد كانت الأخبار تنتقل ببطء شديد من دولة إلى أخرى، ومن قارة إلى ثانية، ما جعل مسألة اتخاذ القرارات الدولية، تأخذ مسارات ومساقات هادئة إن لم تكن بطيئة، الأمر الذي اختلف طولا وعرضا شكلا وموضوعا عما نعيشه، وبخاصة بعد الانفلاش المعلوماتي والإخباري عبر الهواتف الذكية.

في نهاية الحرب العالمية الثانية لم يكن نموذج أشباه الدول معروفا ولا مؤثرا ونافذا كما هو الآن، ونقصد بأشباه الدول التجمعات الاقتصادية المالية العالمية، مثل كارتلات النفط، أو جماعات الضغط الخاصة بالسلاح، وفي مقدمها المجمع الصناعي العسكري الأميركي بأضلاعه الثلاثة: صناع السلاح في المصانع، وجنرالات الحروب في البنتاغون، إضافة إلى المشرعين في الكونغرس بغرفتيه الأعلى الشيوخ والأدنى النواب.

هذا النموذج من أشباه الدول هو ما يعرف بالشركات المتعددة الجنسيات، أو المتعدية الجنسيات، بمعنى أنها باتت فوق الانتماءات إلى دول بعينها، وأضحت كيانات اقتصادية أخطبوطية تسيطر على مقدرات العالم، بل لا نغالي إن قلنا إنها تمد أذرعها علانية وخفية للتحكم في صناع القرارات السياسية، من مشرق الأرض إلى مغربها، ومن شمالها إلى جنوبها.

الحاجة إلى نظام عالمي جديد، أمر ربما باتت تفرضه "الأشياء الحديثة في مجال الاقتصاد حول الكرة الأرضية، إذ يبدو للناظرين أن نظام "بريتون وودز" الذي تبلور في أعقاب الحرب الكونية الكبرى الثانية، لم يعد قادرا على السيطرة على الأحوال المالية والتوجهات الاقتصادية للعالم بصورته المعاصرة، وحتى مقدمته الضاربة المتمثلة في صندوق النقد والبنك الدوليين، لم تعد قادرة على متابعة مولد اقتصاد عالمي جديد، والسؤال هنا لماذا؟

باختصار غير مخل لأن قلب العالم القديم، ذاك الذي كان محلا للتراكم الرأسمالي في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، قد تغير وتحرك إلى الشرق، هناك حيث آسيا الصاعدة بقوة، وحيث الصين على سبيل المثال مرشحة خلال سنوات قليلة لأن تقود العالم ماليا، وحيث الدولار لن يبقى طويلا ذلك "اللورد الأخضر" القادر على أن يأمر فيطاع.

تحتاج الإنسانية في الوقت الحالي إلى نظام عالمي جديد قادر على التعاطي مع التهديدات التي تشكل نوازل، والتي تؤثر تأثيرا خطيرا على مستقبل الإنسانية، ومن غير أن توفر أحدا من سكان البسيطة.

ولعله من بين المسببات التي تستدعي البحث عن معالم وملامح عالم جديد، تطفو على السطح قضية "الذكاء الاصطناعي"، هذا التطور الخطير والمثير الذي يحاول إزاحة العنصر البشري، لصالح الروبوتات التي تهدد باحتلال وظائف العالم، ما ينذر بثورة جديدة بين البلاشفة والمناشفة، إن جاز لنا استعارة اللغة الروسية بمعناها المجرد وليس الأيديولوجي، أي بين الأغلبية والأقلية، أغلبية جموع العمال والفلاحين وأقنان الأرض، كما كان يقول أديب روسيا الكبير "فيودور دويستفسكي"، كما ستتشكل من المطحونين والمعذبين في الأرض، أولئك الذين باتوا عبيدا للرأسماليين من الإقطاعيين أصحاب رؤوس الأموال الحالمين بإحلال الروبوتات محل العنصر الإنساني.

يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سرد المتغيرات التي تجعل من الحاجة إلى نظام عالمي جديد أمر واجب الوجود، ما دعا بالفعل البروفيسور الروسي "ديمتري يفستاييف"، إلى أن يتساءل مؤخرا عن محاولة روسيا الاتفاق على نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب يحكم العالم.

هل من حاجة إلى يالطا جديدة تولد من رحم التغيرات الجيوبوليتيكة الأخيرة، ومن غير مدعاة لحرب عالمية ثالثة؟
مؤكد أن الزمن لا يعيد نفسه، وعليه فإن سيرورة يالطا لن تمضي بها الأيام من جديد على النحو الذي يتوقعه البعض، ولهذا يبقى الاجتهاد الدولي مفتوحا حول التساؤل الرئيس: "كيف للبشرية أن تبلور نظاما عالميا جديدا أكثر إنسانوية؟
حكما يبقى الانتظار سيد المشهد إلى حين نهاية حالة السيولة الجيوسياسية، وانتهاء فرضية الأزمنة الغرامشية.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

السيولة الجيوسياسية والأزمنة الغرامشية السيولة الجيوسياسية والأزمنة الغرامشية



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 08:50 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

إسرائيل تتهم الجيش اللبناني بالتعاون مع حزب الله
  مصر اليوم - إسرائيل تتهم الجيش اللبناني بالتعاون مع حزب الله

GMT 08:31 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف
  مصر اليوم - أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف

GMT 09:32 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

بسمة بوسيل تشوّق جمهورها لأغنيتها الجديدة "لأ ثواني"
  مصر اليوم - بسمة بوسيل تشوّق جمهورها لأغنيتها الجديدة لأ ثواني

GMT 09:07 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

GMT 08:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مبابي يكشف سبب منعه من الاستمرار مع سان جيرمان

GMT 01:15 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل ألعاب يمكن تحميلها الآن على هاتف الآيفون مجانا

GMT 06:21 2019 السبت ,19 كانون الثاني / يناير

نوبة قلبية تقتل "الحصان وصاحبته" في آن واحد

GMT 22:33 2018 الأربعاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد ممدوح يوجه الشكر للجامعة الألمانية عبر "انستغرام"

GMT 16:44 2018 الإثنين ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمن المركزي يحبط هجومًا انتحاريًا على كمين في "العريش"

GMT 03:36 2018 الجمعة ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

"طرق التجارة في الجزيرة العربية" يضيف 16 قطعة من الإمارات

GMT 01:03 2018 الثلاثاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

طريقة عمل العيش السوري او فاهيتاس بسهولة فى البيت

GMT 08:12 2018 الثلاثاء ,11 أيلول / سبتمبر

ليدي غاغا تُظهر أناقتها خلال العرض الأول لفيلمها

GMT 16:10 2018 السبت ,01 أيلول / سبتمبر

جماهير روما تهاجم إدارة النادي بعد ضربة ميلان
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon