أحد الأسئلة التي باتت تطرح وبقوة اليوم في الداخل الأمريكي، هو ذاك المتعلق ببنيتها الهيكلية، وما إذا كانت لا تزال قولا وفعلا، بوتقة انصهار Melting pot، أم أن حقائق الواقع الجديد، باتت تتنكر لهذا المفهوم، بأبعاده السسيولوجية المتعارف عليها منذ بدايات النشوء والإرتقاء.
لطالما اعتبرت الولايات المتحدة أمة من المهاجرين، ولكن الأهم والعهدة هنا على عالم الاجتماع الأمريكي الشهير، صموئيل هنتنجتون، في مؤلفه المثير "من نحن" who are we? أنها كانت أمة أدمجت المهاجرين والمتحدرين منهم في المجتمع والثقافة.
عاش المهاجرون إلى أمريكا بأريحية بلغت حد أنهم أصبحوا مندمجين لدرجة أنهم تبنوا النماذج الثقافية للمجتمع المضيف، كما انضموا إلى شبكة من الجماعات والمؤسسات أو الهيكل الاجتماعي للمجتمع الجديد الذي فتح لهم أبوابه.
أكتسب الملايين من المهاجرين الجدد إلى أمريكا أرض الأحلام عادات وطباع "الواسب" "البيض البروتستانت الأنجلو ساكسون"، واكتسوا شعورا خاصا بتوفر مقومات الشعب التي تربطهم بالمجتمع الأمريكي.
هل هذا الاندماج اليوم أصبح أمرا عسيرا، وعما قريب يمكن أن يتحول إلى أثر بعد عين؟
قبل الجواب دعونا نتوقف مع العوامل التي هيأت الاندماج منذ قرنين ونصف من الزمن، قبل أن تتغير الأوضاع وتتبدل الطباع، وتصل أمريكا إلى حد المواجهة، لا بين البيض والسود، كما جرت الأزمات المجتمعية التقليدية، ولكن بين تيارين داخليين، بيوريتانيين من جهة، يقطعون بأنهم في عمق أزمة هوية ديموغرافي قاتلة من جهة، وجاكسونيين يرفضون واقع البيوريتانيين، وملامحهم ومعالم حياتهم، ويسعون في طريق الحفاظ على هوياتهم التي حملوها معهم من بلادهم.
باختصار غير مخل، هناك كثير من العوامل التي سهلت في الماضي اندماج المهاجرين في المجتمع الأمريكي، فقد جاء معظمهم من مجتمعات أوربية بثقافات مشابهة أو متطابقة مع الثقافة الأمريكية.
قامت الهجرة على الإختيار الذاتي، فقد كان على المهاجرين أن يكونوا راغبين في مواجهة تكاليف الهجرة الكبيرة ومخاطرها، كما كانوا متلهفين بوجه عام ليضحوا أمريكيين.
في الوسط من هؤلاء وجد بعض المهاجرين، لاسيما الذين لم يتحولوا إلى اعتناق القيم الأمريكية والثقافة الغربية عامة، بجانب طرق الحياة، أنفسهم أمام خيار العودة طواعية من حيث أتوا، وبهذا كانوا متسقين مع أنفسهم، ومن دون أن يتسببوا في أدنى صراعات مجتمعية داخلية.
وفد المهاجرون من دول عديدة، ولم تكن هناك دولة واحدة أو لغة واحدة مسيطرة في وقت من الأوقات.
توزع المهاجرون إلى أحياء اثنية في جميع أنحاء الولايات المتحدة ، ولكن بدون قيام جماعة واحدة من المهاجرين بتكوين أغلبية من السكان في منطقة معينة أو مدينة كبرى.
كانت الهجرة متقطعة، تخللتها لحظات توقف وانخفاض أعداد المهاجرين سواء بشكل شامل أو بالنسبة لكل دولة على حدة.
قاتل المهاجرون وقتلوا في حروب أمريكا، وتقاسموا مفهوما مشتركا وواضحا بشكل معقول ، وبشكل إيجابي مرتفع عن الهوية الأمريكية، وقاموا بأنشطة وأنشأوا مؤسسات ووضعوا سياسات لدعم أمركة المهاجرين.
متى بدأ التغير الحقيقي في تلك العوامل، والتي ربما تقود الولايات المتحدة الأمريكية يوما قريبا، إلى تفكك الاتحاد الذي يجمعها، ويضعها أمام استحقاقات سيناريو مشابه، لذاك الذي حدث في الاتحاد السوفيتي، أوائل العقد التاسع من القرن الماضي؟
بحسب العديد من المؤرخين الأمريكيين، ومنهم "هوارد زين"، صاحب أكبر موسوعة عن "التاريخ الشعبي" للولايات المتحدة الأمريكية، فإنه بداية من العام 1965، بدت هذه العوامل المحفزة للاندماج كأنها غائبة أو ذابت أكثر مما كانت عليه في السابق.
هنا ربما ينبغي البحث عن الأعراق الجديدة التي حطت رحالها في الداخل الأمريكي، وفي المقدمة منها المهاجرين الأسبان اللاتين، أصحاب الثقافة المغايرة تماما لجذور المتطهرين أو البيوريتانيين، الذين هجروا أوروبا، هربا من العسف والخسف الدوجمائي للقرون الوسطى، والذين كانوا في مجملهم"أنجلوساكسون".
لم يكن من اليسير بالنسبة لأحفاد حضارات مثل ،"المايا" و "الأزتيك"، بأفكارهم وطقوسهم، عاداتهم وعباداتهم، الاندماج بهذه الصورة المغرقة في الثقافة ذات الجذور الإنجليزية.
والشاهد، أنه إن كان سكان أمريكا اللاتينية، القريبين جغرافيا من الولايات المتحدة، إلى درجة اعتبار القارة اللاتينية من منظور سياسي، الخلفية اللوجستية لواشنطن، فإن هناك هجرات أخرى عرفت طريقها للولايات المتحدة، جاءت من بعيد جدا، من القارة الآسيوية، من الصين الكونفوشيوسية، ومن الهند حيث طوائف السيخ والهندوس، البعيدة تماما عن الأطر الإبراهيمية.
أما الهجرات العربية، فقد عرفت أمريكا موجتين منها، الأولى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبدأت من منطقة بلاد الشام، وكان جلهم من المسيحيين العرب، الذين توجهوا إلى دول أمريكا اللاتينية أول الأمر، ومنها تاليا إلى أمريكا الشمالية، فيما الموجة الثانية بدأت بعد هزيمة العام 1967، والانكسار النفسي الذي لازم شباب عربي، خدع بالشعارات القومية الناصرية بنوع خاص.
اليوم وبعد نحو ستة عقود، تجد أمريكا ذاتها في أزمة هوية حقيقية، سيما في ضوء المخاوف الشديدة الوقع، والتي تنتاب الرجل الأبيض، ذلك أنه فيما يعتبر نفسه صاحب الإرث العرقي الكبير والأصيل في أمريكا، حتى وإن كان إرث سليب من أصحاب البلاد الأصليين من الهنود الحمر، يجد ذاته أمام واقع إحصائي يرعبه...لماذا؟
الأرقام لا تكذب ولا تتجمل، وتحمل بشرى غير سارة للواسب، تتمثل في أنهم بحلول العام 2040، أي خلال نحو عقد ونصف من الزمن، وهو سنوات تعبر مثل البخار، ستنكمش أعدادهم وتتراجع إلى ما دون 40% من سكان البلاد.
هل هذا هو السبب الرئيس لصحوة القوميات والنزعات العنصرية الأمريكية الداخلية؟
غالب الظن أن الأمر تجاوز الصحوة، إلى رفض متوار اليوم لفكرة الاندماج وبوتقة الانصهار، وقد يأخذ الأمر شكلا من أشكال الرفض العنيف، عما قريب.
هذا القريب قد يكون أوانه الانتخابات الأمريكية الرئاسية القادمة 2024، والتي ستجري في وسط احتقان مجتمعي أمريكي داخلي، حيث تتكالب الصراعات ذات المسحة الاجتماعية والجذور العرقية، قبل أن تحتدم المنافسة السياسية.
هل في المشهد خطورة ما على أمن وسلام العالم؟
قد لا يكون ذلك في المدى المنظور، لكنه في كل الأحوال ليس بعيدا، سيما في ظل دعوات الإانفصال التي ترتفع يوما وراء يوم، في ولايات ذات شأن عالي القيمة والأهمية، كما الحال في كاليفورنيا وتكساس بنوع خاص، وساعتها ستختفي أمريكا الوازنة، كقدر مقدور في زمن منظور ما يخل بالبناء الاستراتيجي العالمي، وللأمر حديث قادم.