هل بدأت القارة العجوز في مراجعة مواقفها لجهة الحرب الروسية – الأوكرانية، وبخاصة بعدما انساقت طويلاً وراء الموقف الأمريكي وبدا مؤخرا أنها هي من يدفع أكبر قدر من الخسائر، ومن غير أن يتأثر المشهد الأمريكي الداخلي، اقتصادياً على الأقل؟
عدة مشاهد متوالية ومتتالية جرت بها المقادير خلال الأيام القليلة الماضة تشي بأن رؤية ما تكاد تتبلور في الرحم الأوروبي، تسعى لإيجاد بديل آخر عن المواجهة والحرب التي تتعب القلب.
نهار الأحد الماضي كانت وزارة الدفاع الفرنسية تؤكد "تصميمها على المساهمة إلى جانب حلفائها في حل سلمي للأزمة في أوكرانيا ".
هذا الموقف جاء متسقا مع ما أعلنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ، في اليوم نفسه ، وغداة افتتاح قمة السلام في روما بشأن السلام الممكن في أوكرانيا حين يقر ذلك الأوكرانيين أنفسهم .
حديث ماكرون في افتتاح القمة التي نظمتها جماعة سانت إيجيديو في روما ، حمل صيغة جديدة منها القول إن "السلام سيبنى مع الطرف الآخر، وهو عدو اليوم حول طاولة" .
ويلاحظ هنا أن تلك التصريحات جاءت قبل أن يلتقي الرئيس الفرنسي ماكرون ، البابا فرنسيس ، الرجل صاحب الدالة الكبيرة على السلام من جهة ، والذي سعى في شهر مارس آذار الماضي للقاء البطريرك الروسي كيريل ، بهدف تحريك مساعي وقف الحرب وإيجاد مسارب للسلام ، حتى وإن لم يتم اللقاء بسبب مواقف الأخيرة التي تبدو ماضية قدما في جانب بوتين ، ولا تحيد عنه.
التحول النوعي الآخر ، والذي يلفت النظر بالنسبة لسياسات الأوروبيين ، تلك التي اندفعت يشكل يحمل الكثير من المجازفة ، جاء من لندن ، والتي لم تنفك تزود الأوكرانيين بالأسلحة والعتاد ، وربما بخيرة جنرالاتها الذين لعبوا دورا في المعارك الأخيرة لصالح كييف .
في محادثته مع نظيره الروسي سيرغي شويجو ، أعلن وزير الدفاع البريطاني "بن والاس"، عن استعداد لندن لمساعدة موسكو وكييف في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار ، موضحا أن سلطات كييف لا تعتزم التصعيد في أوكرانيا ، وأن لندن مستعدة للتوسط في حل الأزمة ، ويجب على الروس والأوكران السعي لوقف الحرب .
ترى هل يمكن للمستشار الألماني أولاف شولتس أن يخرج بدوره عن هذا السياق ؟
المؤكد أن ألمانيا هي أكثر من تعرض لأضرار تكتيكية واستراتيجية من جراء هذه الحرب العبثية ، ويكفي المرء النظر إلى الخسائر الناجمة عن توقف تدفق الغاز الروسي عبر أنابيب نورد ستريم ، ناهيك عن الصحوة العسكرية الألمانية ، والتي ستقتطع حكما من أرصدة الازدهار الاقتصادي وهذه قصة أخرى .
يعن لنا أن نتساءل: "ما الذي غير الطباع وبدل الأوضاع على صعيد قادة أوربا، والذين تمترسوا حتى وقت قريب وراء القوة الخشنة كحل وحيد وأكيد في محاولة لإجبار القيصر بوتين على التراجع ، وهو ما لن يفعله في الحال أو الاستقبال ؟
يمكن القطع بأن الأوربيين استشعروا احتمالات تغير المشهد الأمريكي من الدعم لأوكرانيا عما قريب ، وبخاصة إذا قدر للجمهوريين الفوز في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس .
تبدو مواقف الجمهوريين رافضة لاستمرار الدعم المالي الذي تجاوز 40 مليار دولار لأوكرانيا حتى الساعة ، وهذا هو الرقم المعلن ، وبالقطع هناك مساعدات في الأطر السرية لا يعلن عنها .
مؤخرا ذكرت صحيفة "بولتيكو"، أنه منذ شهر تقريبا ، ازداد عدد المشرعين الجمهوريين المستعدين لتقليص الدعم المالي العسكري لأوكرانيا .
أما زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس النواب، كيفين مكارثي ، والذي يأمل أن يكون زعيم الأغلبية خلال بضعة أسابيع ، وبخاصة إذا فاز الحزب الجمهوري في انتخابات التجديد النصفي بالأكثرية ، فقد صرح بالقول " أعتقد أن الناس سيواجهون ركودا اقتصاديا عما قريب ولن يكتبوا شيكا على بياض لأوكرانيا ".
يكاد الأوربيون يدركون هول المخاطر المحدقة بهم ، لا سيما إذا وجدوا أنفسهم خلوا من الدعم المالي الأمريكي ، في مواجهة روسيا ، والتي على قدر ضعف مقدراتها الاقتصادية ، إلا أنه من الواضح ، وبطريق أو آخر أنها قادرة على التلاعب بالكثير من المقادير الأوربية .
خذ إليك على سبيل المثال لا الحصر ، ما كشفت عنه توقعات صندوق النقد الدولي خلال الأيام القليلة الماضية من أن الوضع الاقتصادي في أوروبا ، وبسبب أزمة الطاقة ، سيرفع من تكاليف نفقات المعيشة في الدول الأوروبية 7% في ما تبقى من العام الحالي 2022 ، وبمقدار 9% من العام القادم وما يليه .
في السياق ذاته ، يشدد خبراء الصندوق على أن "العديد من الشركات الأوروبية قيدت بالفعل أو تخطط لتقييد إطلاق البضائع في قطاعات مثل الأسمدة والزجاج والصلب والألمنيوم ، الذي من المرجح أن يؤدي إلى زيادات إضافية في الأسعار في سلاسل القيمة .
يكفي المرء أن يتابع ما جرى من وكالة التصنيفات الائتمانية " موديز "، والتي خفضت من توقعاتها للاقتصاد البريطاني من " مستقر" إلى " سلبي "في ظل عدم الاستقرار السياسي وارتفاع التضخم في البلاد .
ليس خافيا على أحد مشاهد الاضطراب المجتمعي الحادث في كافة الدول الأوروبية ، من جراء ارتفاع الأسعار ، ونقص الطاقة ، والعنف المتولد عن هذا وذاك .
بل أكثر من ذلك ، إذ تبين بعض الأرقام أن هناك هجرة عكسية من دول مثل بريطانيا ، سعيا إلى غيرها ، حيث أكلاف الحياة أخف وطأة .
على أن مخاوف أخرى تتجاوز الأزمات الاقتصادية ، موصولة بالوقوع في فخ ، وربما جُب التيارات اليمينية المتطرفة ، وهو ما نراه بوضوح اليوم ، في إيطاليا والسويد والمانيا وفرنسا ، والبقية تأتي ، الأمر الذي يعني كتابة شهادة وفاة للاتحاد الأوروبي ، وعودة غير محمودة لصراع الشوفينيات والقوميات ، وصولا لأوروبا المتناحرة والمحتربة مرة أخرى .
هل أدرك الأوروبيون أن هناك من وضع العصا في دواليب المشروع الأوراسي ، لقطع أحلام التواصل الجغرافي والديموغرافي بين آسيا وأوروبا؟
في كل الأحوال أن يستيقظ الأوربيون متأخرين لهو خير لهم من أن يغطوا في سبات عميق يقودهم إلى ظلام في قارة التنوير.