بقلم - عبد المنعم سعيد
«المراجعة أو Revisionism» هى جزء أساسى من الفكر السياسى الدولى الذى ينظر فى التغيرات المختلفة لتوازنات القوى التى يمكنها أن تأخذ نظاما إلى آخر. القاعدة هنا هى أنه لا يوجد نظام دولى يدوم إلا بالقدر الذى مكنته «القوة» من ظروف تأتى من العصر ومن توازناته وما جاء فيه من تكنولوجيا، وقاده من بشر. وقبل أكثر من قرنين واجهت أوروبا ثورتين متزامنتين مع نهاية القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر: الثورة الفرنسية، والثورة الصناعية والتكنولوجية. وكانت الثورة الأولى هى التى استهدفت، عمدا ومباشرة، تحطيم الهياكل والنظم السياسية للدول الأوروبية بأفكارها عن «الحرية» و«الإخاء» و«المساواة»، وهى أفكار حملها معه نابليون بونابرت حينما توسع شرقا حتى وصل إلى موسكو على الأرض الروسية. لكن الثورة الثانية كانت هى التى أصلت عملية تغيير أوروبا، ومن بعدها العالم اقتصاديا واجتماعيا ثم سياسيا. كلتا الثورتين، على أى الأحوال، كانتا وراء تكوين العالم المعاصر، كما نعرفه الآن، حتى بعد أن تمت هزيمة نابليون فى عام ١٨١٥وفى أعقاب الهزيمة قامت أربع من القوى المحافظة، روسيا والنمسا وبروسيا وبريطانيا، بعملية لإدارة التغيير والحفاظ على توازن القوى فى القارة الأوروبية لقرابة ١٠٠ عام حتى نشبت الحرب العالمية الأولى فى ١٩١٤. وفيما بعد أضيفت فرنسا إلى القائمة، وشكلت القوى الخمس ما أصبح معروفا باسم «منظومة أوروبا Concert of Europe» أو «كونجرس فيينا» لإدارة التغيير ومواجهة إمكانية نشوب ثورة أخرى.
كلتا الثورتين كفلتا مراجعة عميقة بالسلاح والسياسة والدبلوماسية للنظام الدولى السابق على القرن التاسع عشر، ومؤسسا لمنظومة توازن القوى، وحارسا على عمليات إصلاح عميقة للنظم السياسية والاجتماعية، ودافعا إلى التقدم غير المسبوق تاريخيا بفعل الثورة الصناعية الأولى.
لكن مع مطلع القرن العشرين لم يعد العالم الذى كان يدور حول أوروبا قد ذهب بالقوة وعناصرها إلى العالم الجديد، حيث الولايات المتحدة الأمريكية، وبفعل الوهن الذى حل بالإمبراطوريات العثمانية والنمساوية المجرية، والضعف السياسى الفرنسى فى جمهوريته الثالثة، ووهج الوحدة الألمانية الذى يبحث لألمانيا عن مكان تحت الشمس، ونشوب الثورة البلشفية فى روسيا رافعة أعلام المطرقة والمنجل ومبشرة بعالم لم تعرفه البشرية من قبل. أصبح العالم هكذا مختلفا، وعندما يختلف العالم لابد أن يتغير النظام الدولى، وهو ما حاوله الجميع بعد الحرب العالمية الأولى من خلال إنشاء «عصبة الأمم»، لكى تقود نظاما دوليا جديدا قائما على القانون الدولى، وتسعى لكيلا تتكرر الحرب العالمية مرة أخرى.
لكن الحالة الدولية التى سمحت بتعدد الأقطاب سرعان ما تبين عدم قدرتها على التوافق بعد انسحاب أمريكا إلى ما وراء المحيط، وضعف ذكائها فى التعامل مع الدول المهزومة التى فرضت عليها عقوبات قاسية، فانتهى الأمر إلى إشعال شعلة الفاشية والنازية فى أوروبا التى حاولت مراجعة النظام الدولى للمنتصرين، لكن النتيجة كانت كسادا عظيما أعقبته حرب عالمية ثانية حدثت أثناءها أكبر عملية لمراجعة النظام الدولى القائم على تعدد الأقطاب.
كان العالم هذه المرة أكثر ذكاء فى مراجعاته عما حدث من قبل، صحيح كان من الطبيعى أن يعكس النظام الدولى الجديد حالة المنتصرين فى الحرب، فكان التسليم بالمكانة الخاصة للولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتى، وحصل معهما على مكانة أقل بريطانيا وفرنسا والصين، حينما حصل الخمسة على مقاعد دائمة العضوية، ولها حق الفيتو فى تنظيم دولى جديد متشعب الفروع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وهو نظام «الأمم المتحدة» الذى ضم الدول المستعمَرة سابقا. وفى الأربعة عقود التالية للحرب بدا أن النظام الدولى قابل للاستقرار القائم على «الوفاق» أحيانا بين القطبين الرئيسيين، و«الحرب الباردة» فى معظم الأحيان. كان للنظام أزماته الحادة أحيانا (برلين وكوبا والشرق الأوسط فى ١٩٧٣)، لكنه بات أكثر إدراكا لمخاطر الحرب النووية فتوصل القطبان إلى اتفاقيات للحد من التسلح، وتوصل العالم كله إلى اتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية. لكن فى منتصف ثمانينيات القرن العشرين بدا أن النظام كله قابل للمراجعة، ولم يكن ذلك لحرب عالمية، وإنما نتيجة الجمود والوهن الذى ألم بالاتحاد السوفيتى ودول حلف وارسو والدول الاشتراكية فى العالم فى العموم. كان العالم كله بقيادة الغرب والولايات المتحدة ينتقل إلى ثورة صناعية جديدة زادت من القوة والقدرات الغربية على نشر مذهبها الرأسمالى فى الاقتصاد، ومذهبها الديمقراطى فى السياسة.
وقبل نهاية العقد كان حائط برلين قد سقط، ومن بعده الاتحاد السوفيتى وحلف وارسو، وانتهت الحرب الباردة ودخل العالم مع تسعينيات القرن فى نظام دولى جديد.
لم يكن النظام الجديد قائما على المراجعات التى جرت له خلال العقود السابقة، وإنما على نظريات جديدة حاولت وضع التغيرات التى ألمت بنظام القطبين والحرب الباردة فى إطار تاريخى وصفه «فرانسيس فوكاياما» بأنه «نهاية التاريخ» الذى سلم العالم كله إلى الرأسمالية والليبرالية مرة واحدة وإلى الأبد، أما «صمويل هنتنجتون» فرأى مولد تناقضات جديدة وصفها بصراع الحضارات التى وضعت التناقضات الدولية والعالمية فى إطار خارج «الدولة القومية» إلى الحضارات الكبرى فى العالم. عمليا فإن النظام الدولى بات نظاما للقطبية الأحادية ممثلة فى الولايات المتحدة، ومن ورائها حلف الأطلنطى والمعسكر الغربى فى عمومه، والتى بات عليها أن تعيد تنظيم العالم وفقا لرؤاها الخاصة، وهو التنظيم الذى اصطلح على تسميته «العولمة». وعلى مدى العقود الثلاثة الثانية (١٩٩٠- ٢٠٢٠) كانت قسمات القطبية الأحادية والعولمة هما المحددان الأساسيان للنظام الدولى فى مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
لكن العامين الأخيرين شهدا تغيرات جوهرية، وقع فى مقدمتها أن المعسكر الغربى فى عمومه والولايات المتحدة واجها قدرا كبيرا من الوهن تجسد فى هزيمة الولايات المتحدة وتراجعها وخروجها من الشرق الأوسط، فضلا عن تقلبها السياسى الداخلى ما بين مذاهب سياسية متعددة أدت فى النهاية إلى انقسام وتشرذم وعجز عن التوافق المطلوب فى مجتمع سياسى ليبرالى وديمقراطى. وثانيها أن مجىء «الجائحة» وفشل الولايات المتحدة ومعها المعسكر الغربى فى مواجهته، فضلا عن قيادة العالم فى التعامل معه، أخذ الكثير من سمعة القوة والتكنولوجيا الأمريكية.
وثالثها أن الصين التى أخذت فى الاستفادة من العولمة خلال العقود الثلاثة السابقة صعدت مع الأزمة إلى مكانة القوة العظمى فى النظام الدولى، ومن ثم بدأت فى دعوات لمراجعة النظام الدولى بحيث تقوم فيه شراكات جديدة تختلف عن الانفراد الأمريكى. ورابعها أن روسيا، التى عانت كثيرا خلال العقود الثلاثة السابقة، عادت إلى العالم مرة أخرى، تحت قيادة فلاديمير بوتين، لكى تراجع نظام ما بعد الحرب الباردة، الذى لم يحترم لا اتفاقيات هلسنكى ١٩٧٤ ولا اتفاقية منظمة التجارة العالمية. عمليا أصبح هناك نظام جديد ثلاثى الأقطاب، وما بقى هو كيف تجرى التفاعلات والعلاقات بينها حتى نتحدث عن نظام عالمى ودولى جديد؟.