توقيت القاهرة المحلي 09:41:58 آخر تحديث
  مصر اليوم -

مذكرات شاب عاش منذ 55 عاماً!

  مصر اليوم -

مذكرات شاب عاش منذ 55 عاماً

بقلم - عبد المنعم سعيد

في عام 1969 صدرت أولى التحف القصصية للروائي المصري الشاب وقتها، جمال الغيطاني، «أوراق شاب عاش منذ ألف عام». كان العمل الأدبي مؤذناً بما سوف يأتي بعده معبراً عن جيل جديد، كان الحدث الحاكم في وعيه هو ما عرف في تلك الأيام بالنكسة، أو هزيمة 5 يونيو (حزيران) 1967.
المجموعة القصصية كانت بحثاً في التاريخ المملوكي لمصر، وسعياً وراء معرفة الحقيقة في أوقات المحنة والتراجع، ولم يكن ذلك هروباً من واقع صعب، وإنما تعبير عن أن نقطة التجاوز تبدأ دائماً من حيث انتهينا في الماضي. بالنسبة لغير الأدباء كانت نقطة البداية مختلفة حيث كانت ملامسة لجمر اللحظة، بما فيها من نار ولهب. في يوم 5 يونيو 1967 وفي الساعة 9:00 تماماً من صباح اليوم الأغبر، انتظم طلبة السنة الأولى من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في خيمة المدينة الجامعية لتلقي امتحان «المجتمع العربي». وبينما بدت الأسئلة قابلة للعبور، وكان أستاذنا رحمه الله د. عبد الملك عودة - أحد الآباء المؤسسين للدراسات الأفريقية في الجامعات العربية - يتجول في لجنة الامتحان مراقباً حازماً، إذ بأصوات انفجارات وقنابل ترجمتها المشاعر المتقدة بالتطورات السياسية والحشود العسكرية إلى أن الحرب قد بدأت. ورغم محاولات الأستاذ العظيم لإقناعنا بضرورة إكمال الامتحان، فإن كلاً منا كان قد اكتفى بما كتبه، وترك الأمر مسرعاً إلى الخارج لكي يصبح خبراً مؤكداً، وبقي أن نعد الساعات انتظاراً لحدوث النصر العظيم.
باقي القصة معلوم، لكن لسعة اللحظة هي التي لا تزال تلسع الجماعة المصرية كل عام، وبعد 55 عاماً ظلت الذكرى حاضرة بقسوة لدى جيل كامل من المصريين، وكانت رغم أحداث كبرى في مصر والعالم شاغلة لمساحة كبيرة من الاهتمام العام. الشاب الذي عاش قبل 55 عاماً، وهو الآن في سبعينات العمر، يتأمل ما جرى بتفاصيله.
كانت الهزيمة قد حدثت مدوية ومهينة، ولم تكن بالنسبة لنا طلبة العلوم السياسية بجامعة القاهرة مثل كل شباب مصر، كنا ببساطة نعرف عمق الجرح وغزارة النزيف الذي ألمّ بالمحروسة. خرجنا مع الجموع وهتفنا لأن ذلك كان الإجابة الوحيدة المتاحة على العدوان، وربما في غمرة الاستجابة تولد السؤال؛ لماذا حدث ما حدث؟ وسرعان ما جاء آخر، ماذا نفعل؟ كانت نقطة البداية تلك الرحلة الطويلة على الأقدام من مدينة الباجور بمحافظة المنوفية إلى القاهرة لمطالبة الزعيم جمال عبد الناصر بالبقاء يومي 9 و10 يونيو 1967. ولم يمض وقت طويل حتى أجمع شباب المرحلة على أنه لا يمكن القبول بما حدث في 5 يونيو، وأن الرفض لا بد أن يرتبط بالتقييم والمحاسبة. لم يعد الزعيم معصوماً، ولا كان صحبه الأحرار ناجين من النار، ولا كانت مصر كلها غائبة عن المسؤولية، عاشت البلاد واحداً من أهم إخفاقاتها التاريخية. تطوعت مع آخرين لإنقاذ محصول القطن الذي كاد يضيع في غمرة الأحداث، ومن بعدها ذهبت الجماعة للتدريب العسكري، وهو ما جرى في الدخيلة بالقرب من الإسكندرية، وهناك حدث أول اقتراب من الموت حينما انطلقت أمام وجهي رصاصة من زميل غفل عن اتخاذ احتياطيات الأمان.
أصبحت متابعة الأنباء انتظاراً لما سوف يأتي عادة يومية؛ وفي الأول من يوليو (تموز) جرت معركة «رأس العش»، ودارت أحداثها بالقرب من ضاحية بور فؤاد - الشط الآخر لمدينة بورسعيد في سيناء - عندما حاولت المدرعات الإسرائيلية احتلالها، لكن قوة من الصاعقة المصرية نجحت في صدّ الاعتداء الإسرائيلي. كانت الحادثة بمثابة الشرارة التي أدت لاندلاع حرب الاستنزاف على ضفتي قناة السويس لنحو 3 سنوات، شكلت الخاتمة النضالية للزعيم.
وبعد ذلك توالت الأحداث حتى وصلنا إلى حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 التي كانت أعظم حروب العرب والمصريين، حينما اجتمع السلاح مع النفط لكي يضع بداية جديدة في تاريخ المنطقة. ولكن 55 عاماً من الحدث المرير لم تمحَ من الذاكرة، و6 سنوات ما بين «النكسة» والانتصار علّمتنا «إدراك الحدود». فالحقيقة أن آفة حارتنا لم تكن النسيان، كما ذكر نجيب محفوظ في رائعته «أولاد حارتنا»، وإنما هي عدم إدراك الحدود من قبل أفرادنا أو جماعاتنا. و«إدراك الحدود» له وجهان؛ خارجي له طبيعة «جيوسياسية» تحدد العداء والصداقة، والحرب والتحالف؛ و«جيو استراتيجية» تقوم على توازنات القوى العسكرية والاقتصادية ونوعية القيادة. والوجه الآخر داخلي يقوم على قدرة قياس القدرات الخاصة بالدولة، بلا تهوين أو تهويل، في ظل عالم ظلّ يتغير طوال العقود الماضية.
مضت مياه كثيرة تحت الجسور، كما هو معلوم منذ حرب يونيو، ومنها إلى حرب أكتوبر، وخلاصة الحربين كانت انتهاء التعريف القائم للحرب بين العرب والإسرائيليين على أنها من أجل الوجود، وبداية الحديث عن تسوية قضايا الأراضي المحتلة مقابل السلام، وحلّ القضية الفلسطينية على أساس حلّ الدولتين، واحدة إسرائيلية، وأخرى فلسطينية. وفي الواقع، فإن إدراك الحدود لم يكن عربياً فقط، وإنما إسرائيلياً كذلك، وما جرى منذ حرب يونيو أن درجات الاعتراف بإسرائيل والتعامل معها على جبهة واسعة من القضايا أدى إلى انسحاب إسرائيل من أراض عربية محتلة في سيناء والأردن ولبنان حتى فلسطين. ما وقف عائقاً دون إتمام التسوية التي اقترحتها المبادرة السعودية العربية كان وجود قوى لدى الطرفين لا تزال غير مدركة لحدود القوة في تحقيق أهدافها.
ومن المدهش أن تنظيم «حماس» الذي شجعت إسرائيل على قيامه لمواجهة منظمة التحرير الفلسطينية لم يؤدِ فقط إلى إضعاف المنظمة، وكذلك السلطة الفلسطينية واتفاقيات أوسلو؛ وإنما قاد أيضاً إلى محاولة أخذ القضية إلى مزيد من العداء الذي له صبغة وجودية تجاه إسرائيل. على الجانب الإسرائيلي، فإن قوى التطرف اليمينية أخذت الدولة كلها إلى جانب إتلاف كل ما يمكنه حل دولتين، يعيشان في سلام سوياً، وعلى العكس يقود إلى حل الدولة الواحدة الذي لا يرغب فيه فلسطيني ولا إسرائيلي. استمرار إسرائيل في سياستها الاستيطانية، وضمّها للأراضي، ومخالفة القواعد المستقرة في معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية على إدارة المناطق المقدسة في القدس، كل ذلك يكسر حدوداً كثيرة لما تم إنجازه خلال ما هو أكثر من 5 عقود من إدراك حدود القوة لدى الطرفين.
الشاب الذي عاش «القضية» منذ 55 عاماً حرباً وسلاماً يتأمل كل ما في الواقع الجديد من حماقات وفرص؛ حيث حماقة عدم إدراك حدود القوة من «حماس» تحدث على الجانب الآخر، الذي لديه حالة من الإخفاق السياسي الداخلي تجعله غير قادر على إدراك إمكانات «السلام الإبراهيمي» ولا للحقيقة الجيوسياسية والاستراتيجية التي تقول إنه بين نهر الأردن والبحر المتوسط يوجد شعبان لا سبيل لأي منهما للفكاك من الآخر إلا بالسلام والتعايش.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مذكرات شاب عاش منذ 55 عاماً مذكرات شاب عاش منذ 55 عاماً



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمان ـ مصر اليوم

GMT 09:09 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب
  مصر اليوم - تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب

GMT 08:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة
  مصر اليوم - وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة

GMT 08:53 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض

GMT 23:13 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل
  مصر اليوم - بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل

GMT 09:29 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

طهران ترحب بوقف إطلاق النار في لبنان
  مصر اليوم - طهران ترحب بوقف إطلاق النار في لبنان

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 04:48 2019 الإثنين ,08 إبريل / نيسان

أصالة تحيى حفلا في السعودية للمرة الثانية

GMT 06:40 2018 الأحد ,23 كانون الأول / ديسمبر

محشي البصل على الطريقة السعودية

GMT 04:29 2018 الخميس ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

روجينا تكشّف حقيقة مشاركتها في الجزء الثالث من "كلبش"

GMT 19:36 2018 الأحد ,22 إبريل / نيسان

تقنية الفيديو تنصف إيكاردي نجم إنتر ميلان

GMT 13:02 2018 الإثنين ,02 إبريل / نيسان

علماء يكشفون «حقائق مذهلة» عن السلاحف البحرية

GMT 20:26 2018 السبت ,31 آذار/ مارس

إيران توقف “تليجرام” لدواع أمنية

GMT 22:47 2018 الجمعة ,09 شباط / فبراير

مبابي يغيب عن نادي سان جيرمان حتى الكلاسيكو

GMT 21:12 2018 الأحد ,28 كانون الثاني / يناير

الزمالك يحصل على توقيع لاعب دجلة محمد شريف
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon