توقيت القاهرة المحلي 12:17:41 آخر تحديث
  مصر اليوم -

التراجيديا الأميركية

  مصر اليوم -

التراجيديا الأميركية

بقلم - عبد المنعم سعيد

قبل أربعة عقود تقريبًا، ومع بعض النضج الفكرى والأكاديمى، والعيش لقرابة خمس سنوات فى الولايات المتحدة الأمريكية للدراسة، أصبحت من الذين يعتقدون أن الولايات المتحدة ليست فقط قوة عظمى عالمية، وإنما أيضًا ضرورية لسلامة الكوكب ومَن فيه بعد أن تزايدت مشكلاته ومعضلاته. لم يكن ذلك عن جهل لدور واشنطن فى تعقيد المشكلات العالمية، وما شنّته من حروب مثل فيتنام التى أثرت كثيرًا فى جيلنا، ودورها بالطبع فى الصراع العربى الإسرائيلى، الذى شاهدت بعضه أثناء خدمتى العسكرية ومشاركتى فى حرب أكتوبر المجيدة. ولكن لأسباب لها علاقة بالتقدم العلمى والتكنولوجى الأمريكى، وقوة أمريكا الناعمة، وما تكون فى الولايات المتحدة من أفكار ليبرالية فى النظام السياسى بدَت أشد صمودًا من الأفكار الاشتراكية التى قادت تآكل الدول وعجزها عن مواجهة قضايا العصر الكثيرة. باختصار تكون الرأى الذى يقول إنه مهما كانت مثالب أمريكا، فإن وجودها فى العالم أكثر ضرورة من اختفائها أو عدم تواجدها لسبب أو آخر. انهيار الاتحاد السوفيتى ومعه حلف وارسو، وإعادة توحيد ألمانيا، ومن بعدها قيام الاتحاد الأوروبى وتوسعه، جعل وجهة النظر هذه أشد رسوخًا، والمشاركة الأمريكية خلال التسعينيات من القرن الماضى فى صنع السلام فى الشرق الأوسط مؤيدًا لدور أمريكى إيجابى فى المنطقة. كل ذلك كان يعتمد، خاصة بعد الخروج الأمريكى من فيتنام، على الاستقرار السياسى داخل الولايات المتحدة، وقدرتها على النمو الاقتصادى والتكنولوجى فى مجالات مختلفة، من بينها مواجهة أمراض مستعصية والتغلب عليها فى أطر كونية.

كل ذلك كان معقولًا حتى نهاية القرن العشرين، وربما منذ تغلب جورج بوش الابن على آل جور فى الانتخابات الرئاسية والخلل الذى جرى حول نتيجة الانتخابات، والنزوع الأيديولوجى الذى بدا مستبدًّا بجماعة «المحافظين الجدد» المصممين على أن يكون القرن الواحد والعشرون قرنًا أمريكيًّا، حتى ولو كانت واشنطن مضطرة إلى استخدام السلاح. كان الرد على هجمات سبتمبر ٢٠٠١ الإرهابية الوحشية متعجلًا ومراهقًا وانتهى إلى غزوات مكلفة وأبدية فى العراق وأفغانستان وظهور «دولة الخلافة الإسلامية»، وفى النهاية دعم أعداء أمريكا من إيران إلى روسيا فى مد نفوذهم ومنافستهم للدولة الأمريكية فى الشرق الأوسط. وما خسرته الولايات المتحدة بالعنف لم تكسبه بالمودة، التى حاول باراك أوباما أن يمدها إلى مناطق مختلفة من العالم. لم تكن إدارته مختلفة كثيرًا إلا فى الأسلوب عن الإدارة السابقة، فكلاهما كان يعتقد فى «الرسالة الديمقراطية» الأمريكية تجاه دول العالم التى تحكمها عدا ذلك مجموعات من أنواع مختلفة من الأشرار سواء كانوا اشتراكيين أو قوميين. بدون الدخول فى كثير من التفاصيل كانت مغامرة المحافظين الجدد، ومبادرة التقدميين الأمريكيين، ذات تكلفة عالية للغاية، وكان أهم بنودها انتخاب دونالد ترامب.

فى عام ٢٠١٥ كنت مقيمًا فى الولايات المتحدة لعامين تقريبًا لأسباب طبية أتاحت لى مراقبة مولد الظاهرة «الترامبية»، التى بدأت ليس كما تكون كل الظواهر التى لها علاقات بالحملات الرئاسية الانتخابية و«صناعة الرئيس» التى تعودناها مثل البندول لابد له من الحركة بين اليمين واليسار مثل مبدأ تداول السلطة، ولكنها فى النهاية لا تخرج أبدًا عن تلك المساحة الوسطى بينهما. ما عدا ذلك يُعد تطرفًا غير مستحب فى هذا الاتجاه أو ذاك؛ ولكن «ترامب» كان أكبر من التطرف، وكما وصفه آنذاك «كريس كريستى»، حاكم نيوجيرسى السابق، المرشح الحالى المضاد له، بأن ما يقوم به ليس دعاية سياسية، وإنما حركة «ثورية» سياسية جديدة قوامها «ضد العولمة» فى الخارج، وضد «المؤسسية» فى الداخل. وهو الأمر الذى يمكن فهمه فى إطار «ديالكتيك» التطور العالمى، حيث ينبت النقيض دومًا من رحم الظاهرة ذاتها وليس من خارجها. وفى هذه الحالة فإن ذلك النقيض يأتى نتيجة أن مستويات التطور والتغيير لا تكون بالضرورة متساوية أو عادلة أو أنها توزع عوائدها بدرجة كافية من الانتظام بين كيانات اجتماعية وسياسية واقتصادية مختلفة. والحقيقة أنه لم يكن ممكنًا لدونالد ترامب أن ينجح فى الانتخابات الأمريكية لولا ذلك التحول الذى جرى فى الولايات «المتأرجحة» والمعروفة بولايات الصدأ مثل بنسلفانيا وميتشجان وأوهايو، التى تقوم على الصناعات الثقيلة والتقليدية، التى كانت الأقل تعرضًا لأدوات ووسائل الثورات الصناعية الأخيرة. وبشكل ما، فإن المظاهرات التى جرت فى الولايات المتحدة بعد انتخاب ترامب، بل احتجاجًا على نجاحه، كانت هى الولايات الأكثر عولمة بالمعنى الاقتصادى والتكنولوجى، والتى ثارت على الولايات الأقل عولمة. كان الأمر ببساطة غضبًا من «وادى السليكون» على المجمعات الصناعية الثقيلة للحديد والصلب والسيارات التى فازت فى الانتخابات. وباختصار، فإن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد «متحدة» بمعنى التناسق بين درجات التطور الصناعى والتكنولوجى، ولا «أمريكية» بمعنى رغبة «البِيض» الأقل تعليمًا فى احتكار تعريف ما هو أمريكى.

عمليًّا أصبح ذلك يعنى فى العالم نظرة احتقار للجماعة الغربية، بما فيها مؤسسات حلف الأطلنطى والاتحاد الأوروبى ومجموعة الدول السبع، والخروج من الاتفاقيات التى وقّعتها الولايات المتحدة مثل الاتفاق النووى مع إيران، ومنظمة اليونسكو، وإضعافها فى الأمم المتحدة. كان شعار «أمريكا أولًا» وأن تكون أمريكا «عظيمة» مرة أخرى يعنى انكفاء أمريكيًّا على الداخل، وعداء وخصومة أمريكية لا تخلو من عنصرية لكل ما كان وراء المحيط. فى داخل أمريكا ذاتها كان عداء للمؤسسات سواء كانت الكونجرس مع كل قوته الدستورية، أو القوات المسلحة، أو وكالة المخابرات المركزية، وكان يعتبرها جميعًا بلا كفاءة أو وطنية متطرفة لا تنحرف عن المصالح المباشرة للشعب الأمريكى. قادت هذه الأفكار ترامب إلى صداقات مع روسيا وكوريا الشمالية وعداء صليبى للصين التى كانت عملية صعودها مقلقة للنخبة الأمريكية عمومًا، ولكنها كانت معتدية ومغتصبة لما كان الظن أنه قدَر أمريكى مزدهر بعيدًا عن عالم متخلف وعاصٍ يمكن إدارته من وراء المحيطات، ومن وراء أسوار تُبقى بقية العالم بعيدًا عن أمريكا.

لم تكن «الترامبية» إلا بلورة لأفكار زعيم أمريكى جديد وبسيط ووقح فى معظم الأحيان، وقادر على إدارة الحملات الانتخابية منخفضة التكاليف بكفاءة؛ وفى نفس الوقت كانت معبرًا عن صحوة تيار سياسى كامل متعصب ومُعادٍ له أسبابه داخل الولايات وظهر له «ترامب» فى صورة النبى الذى سوف يحقق الخلاص للولايات المتحدة كلها. هذه الصورة خلقت تيارًا مضادًّا داخل الحزب الديمقراطى والولايات المستفيدة من العولمة والمتفاعلة مع العالم، كان كافيًا لتكوين تحالف أدى فى النهاية إلى هزيمة ترامب فى الانتخابات الرئاسية. ولكن ترامب بعقلية الأيديولوجى فعل ما تفعله الأحزاب الأيديولوجية التى عندما تخوض الانتخابات فإما أن تفوز، ويدل ذلك على مدى عشق الجماهير والشعب لها أو أن هذه الانتخابات قد زُورت. هى معادلة بدأت عندما دخل ترامب لأول مرة إلى الساحة السياسية، حيث وضع بذور «الفساد» فى النظام السياسى الأمريكى وكيف أن الديمقراطيين أخذوه إلى ظلم أهل البلاد فى الداخل والحروب الفاشلة فى الخارج. كان ذلك هو بداية التراجيديا الأمريكية وليس نهايتها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

التراجيديا الأميركية التراجيديا الأميركية



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 00:26 2021 الأربعاء ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يضيف لسجله أرقاماً قياسية جديدة

GMT 10:18 2020 الجمعة ,26 حزيران / يونيو

شوربة الخضار بالشوفان

GMT 08:15 2020 الثلاثاء ,09 حزيران / يونيو

فياريال يستعين بصور المشجعين في الدوري الإسباني

GMT 09:19 2020 الجمعة ,24 إبريل / نيسان

العالمي محمد صلاح ينظم زينة رمضان في منزله

GMT 09:06 2020 الأربعاء ,22 إبريل / نيسان

تعرف علي مواعيد تشغيل المترو فى رمضان

GMT 12:50 2019 الثلاثاء ,31 كانون الأول / ديسمبر

علالو يؤكّد الجزائر "تعيش الفترة الأهم في تاريخ الاستقلال"

GMT 04:46 2019 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

اتجاهات ديكور المنازل في 2020 منها استخدام قطع أثاث ذكي

GMT 00:42 2019 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

بدء تصوير فيلم "اهرب يا خلفان" بمشاركة سعودية إماراتية
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon