توقيت القاهرة المحلي 22:17:51 آخر تحديث
  مصر اليوم -

ما بعد حرب جنين!

  مصر اليوم -

ما بعد حرب جنين

بقلم - عبد المنعم سعيد

عشت جزءًا غير قليل من حياتى أهتف وأتابع وأقاتل من أجل «القضية الفلسطينية»؛ ولكن القضية سرعان ما ضاعت من بين أصابعنا، وأخذتها أجيال وجماعات أخرى. ومن وقت لآخر كانت تظهر أعاجيب شتى يبدو فيها القائمون على «القضية» وكأنهم يعيشون حالة من التنويم المغناطيسى، الذي جعلهم لا يعرفون الفارق ما بين الحقيقة والخيال، والماضى والحاضر، والواقع والتمنيات. مَن عاشر القضية الفلسطينية كما عاشرها جيلنا لعرف أنها تمر بمراحل ودورات؛ أحيانًا تصل إلى عنان السماء تمتلك الراية الأخلاقية العالمية، وتزحف زحفًا نحو الأرض الفلسطينية، وتحصل على اعتراف الدنيا، وتصبح لها حتى سلطة وطنية. وفى أوقات أخرى تكون مشاغل العالم من الكثرة بحيث لا يوجد في الصبر منزع لقضية لم يعد لها حل، وانقسم أهلها بين مَن يريد الكفاح إلى الأبد، ومَن يريدون التفاوض حتى نهاية التاريخ. وفى المرحلة الراهنة باتت القضية كلها على أبواب ثلاجة كبرى، فلا المفاوضات غير المباشرة وصلت إلى شىء، ولا المفاوضات المباشرة قامت أصلًا لأن إسرائيل ليست على استعداد لوقف الاستيطان، وأمريكا تقول إنها ليست على استعداد للضغط عليها لتوفير مناخ مناسب للتفاوض، الذي على الأرجح لن يصل إلى حل هو الآخر.

ما هو مكتوب في الفقرة السابقة هو مجمع افتتاحيتين لمقال نشرته في صحيفة الشرق الأوسط، في ٢٣ ديسمبر ٢٠١٠، تحت عنوان: «تفكير آخر في القضية الفلسطينية»؛ والآخر نُشر في صحيفة «الأهرام المسائى»، تحت عنوان: «عجائب القضية الفلسطينية». والحقيقة هي أنه ليس بعد هذا العمر يمكن القول إنه ما أشبه الليلة بالبارحة لأنها في الواقع ليست كذلك، حيث باتت في حالة أسوأ مما كانت عليه في أي زمن من قبل. خلال ما يزيد على دستة من السنوات، تراجع نصيب القضية في النظام العالمى، بعد أن كانت جزءًا من حديث الدنيا من خلال اللجنة الرباعية أو خريطة الطريق، كما تراجع النصيب داخل الإقليم العربى، الذي بات عليه الانشغال بما سُمى «الربيع العربى» وموجاته الأولى والثانية، وما بينهما قامت «دولة الخلافة» وسقطت. وبعدها جرى الانشغال بتهديدات إيران، حتى جاءت التهدئة، ورغم ذلك لم يعد أحد يعلم كيف يؤثر ذلك سلبًا أو إيجابًا على القضية الفلسطينية. الفلسطينيون أنفسهم لم يعودوا كما كانوا، وبعد أن كان لديهم منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعى والوحيد للشعب الفلسطينى؛ والسلطة الوطنية الفلسطينية، التي كانت أول سلطة فلسطينية قامت على الأرض الفلسطينية في التاريخ؛ أصبح الفلسطينيون الآن أربعة أنواع: الفلسطينيون في الخارج، وهؤلاء هم الذين لا يزال على برنامجهم السياسى كيف يعودون إلى الأرض السليبة؛ والفلسطينيون داخل إسرائيل، وهؤلاء يريدون لأنفسهم المساواة داخل إسرائيل والدولة لبقية الفلسطينيين؛ والفلسطينيون في غزة، وهؤلاء بدورهم انقسموا إلى ثلاثة أقسام: أنصار حماس، وأنصار الجهاد الإسلامى، وأنصار كافة أشكال الجهاد الأخرى؛ والفلسطينيون في الضفة الغربية، وهم الواقفون وراء تنظيم فتح، والسلطة الوطنية الفلسطينية، ومؤخرًا وراء تيار من الشباب، الذي يريد القتال تحت اسم «عرين الأسد».

العملية العسكرية الإسرائيلية الأخيرة في جنين كانت تعبيرًا عن قرب «الصدام الفلسطينى الإسرائيلى»، الذي أشرنا إليه في مقال منشور في هذا المقام في ٢٧ يونيو الماضى، ناقشنا فيه «تقدير موقف» قام به د. خليل شقاقى، بعنوان: الطريق إلى الاصطدام.. سلطة وطنية ضعيفة وإسرائيل جديدة قومية ودينية. حرب جنين الثانية كانت متوقعة إذن، وعكستها استطلاعات الرأى العام التي استند إليها التقدير، كما عكسها التحليل الذي جاء في المقال. ومن الجائز جدًّا أن تكون نقطة تحول في اتجاه المزيد من العنف، الذي يقف وراءه اتجاه إسرائيل إلى استيعاب الضفة الغربية بأكملها عبر سلسلة من العمليات العسكرية قصيرة الزمن لا تتعدى يومًا أو يومين، والتى تتضمن ترحيل آلاف الفلسطينيين من مساكنهم، كما حدث في جنين مع أربعة آلاف فلسطينى. سقوط الضحايا والجرحى وتدمير المنازل والطرق والميادين سوف يكون التمثيل الإسرائيلى للتهجير الجماعى للفلسطينيين وفق رؤية تتماشى مع القرن الواحد والعشرين، الذي يتقزز فيه الغرب من القتل الجماعى وقوافل اللاجئين والمهاجرين. سيناريو «النكبة»، الذي يطالب به أعضاء في الحكومة الإسرائيلية القائمة، ربما يكون داخلًا في مرحلة التطبيق، الذي يجرى في صبر وعبر عمليات تنتهى قبل أن يصل غضب العالم إلى مراحل هائجة.

المسألة في وجهة نظر الحكومة الإسرائيلية تقوم على التصدى لحل إشكالية التناقض ما بين «الجغرافيا والديمغرافيا»؛ فإذا كانت إسرائيل تتحكم وتمتلك وتسيطر على الجغرافيا من نهر الأردن إلى البحر المتوسط؛ فإنه لا يوجد في يدها الكثير الذي تفعله إزاء الديمغرافيا الفلسطينية، التي تقف رأسًا برأس في مواجهة الدولة اليهودية. القصة تدور على النحو التالى: أولًا أن إسرائيل تعتبر القانون الأساسى للصراع الفلسطينى الإسرائيلى هو إقامة الأمر الواقع على الأرض. وهذا نجحت فيه بالقوة المسلحة والاستيطان وإقامة دولة قوية وعفية؛ وبإخضاع فلسطينيى الداخل لحقيقة أنهم مواطنون من الدرجة الثانية. وثانيًا أن هناك أمرًا واقعًا فلسطينيًّا أنه رغم «النكبة» السابقة في عام ١٩٤٨، وما لحقها من نكبات جزئية؛ فإن الفلسطينيين لا يزالون يشكلون نصف سكان الأرض الواقعة بين النهر والبحر. وثالثًا أن هذا الواقع الفلسطينى والسابق الإسرائيلى يمكن أن يؤدى إلى واحدة من نتيجتين: إما أن يكون هناك نزوح ولجوء فلسطينى جديد؛ أو أن حقيقة الدولة الواحدة سوف تكون واقعة. لم تكن إسرائيل بقيادتها المنتخبة الحالية بحاجة إلى قراءة الكثير من البحوث الراهنة، التي تسجل أن هناك دولة واحدة قائمة بالفعل. صحيح أنها قائمة على انعدام العدالة، وعدم المساواة، ولكنها تظل واحدة من الواقع السيادى القائم على السيطرة الإسرائيلية.

حرب جنين الثانية لن تكون هي الأخيرة، وكما كانت هناك حروب عديدة في غزة، فإن مثيلاتها سوف تجرى في جنين أو غيرها أو أي من العقبات السكانية الفلسطينية، التي تقف في وجه التوسع الاستيطانى الإسرائيلى. ولكن الفارق بين غزة والضفة الغربية أن الأولى تمثل وجهًا غير مدنى، وغير مقبول من الدول العربية ولا من العالم، كما أنها تاريخيًّا لم تكن واقعة ضمن الأحلام الصهيونية، وربما يكمن فيها «حل القضية الفلسطينية» بإقامة الدولة الفلسطينية في غزة وليس غيرها. أما الثانية فاليمين السلفى التوراتى الصهيونى يرى فيها ظهيرًا ضروريًّا لضمان ضم القدس إلى الأبد عاصمة موحدة لإسرائيل؛ كما أن الصراع فيها يكفل خلخلة التوازن السكانى القائم بخروج الفلسطينيين من أراضيهم كما حدث لأربعة آلاف من أهل جنين في تدريب أولى على ظهور نتائج العدوان، الذي لم يستمر إلا أربعًا وعشرين ساعة، انتهت قبل أن يستيقظ العالم على يوم جديد. ولكن ربما يكون عند هذه النقطة تحديدًا يقع كعب أخيل الإسرائيلى لأنها ربما تكون هي المُعجِّل، الذي يقدم حل الدولة الواحدة على طبق من فضة للمطالبين بالسلام في العالم، والمنادين بالوفاق في المنطقة

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ما بعد حرب جنين ما بعد حرب جنين



GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 23:01 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

ستارمر والأمن القومي البريطاني

GMT 22:55 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حول الحرب وتغيير الخرائط

GMT 22:47 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حرب القرن

هيفاء وهبي بإطلالات متنوعة ومبدعة تخطف الأنظار

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:01 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

ختام فعاليات أسبوع الموضة في الرياض 2024
  مصر اليوم - ختام فعاليات أسبوع الموضة في الرياض 2024

GMT 09:36 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

البرتغال وجهة سياحية جاذبة لعشاق الطبيعة على مدار العام
  مصر اليوم - البرتغال وجهة سياحية جاذبة لعشاق الطبيعة على مدار العام

GMT 21:27 2024 الخميس ,24 تشرين الأول / أكتوبر

محمد صلاح خارج سباق المنافسة على جائزة أفضل لاعب أفريقي
  مصر اليوم - محمد صلاح خارج سباق المنافسة على جائزة أفضل لاعب أفريقي

GMT 09:49 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

طرق العناية بالأجهزة الإلكترونية في المنزل
  مصر اليوم - طرق العناية بالأجهزة الإلكترونية في المنزل

GMT 01:41 2024 السبت ,19 تشرين الأول / أكتوبر

دار الأوبرا في سيدني تتألق ترحيبا بالملك تشارلز

GMT 13:10 2024 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

نقوش تكشف أسرارا جديدة عن المصريين القدماء في معبد إسنا

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 02:25 2018 الأربعاء ,04 إبريل / نيسان

اتحاد كتاب مصر ينعي الروائي أحمد خالد توفيق

GMT 07:04 2018 الثلاثاء ,27 شباط / فبراير

أشرف عبد الباقي يستعد لافتتاح "مسرح مصر للأطفال"

GMT 03:24 2018 الجمعة ,02 شباط / فبراير

ريتا حرب تتألّق في جلسة تصوير حديثة

GMT 12:17 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

الزمالك يطالب الجبلاية بنقل مباراة المصري لملعب القاهرة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon