بقلم - عبد المنعم سعيد
قبل أسبوع بدأت عجلة «الحوار السياسى» المصرية فى الدوران، صحيح أن الأمانة العامة عقدت اجتماعا واحدا كانت له طبيعة إجرائية وفيما أتصور استكشافية، وما كان أكثر من ذلك فى الشكل والمضمون بقى فى انتظار انتهاء إجازة عيد الأضحى المبارك. هى فرصة للتأمل فيما سوف يجعل هذا الحوار سبيلا إلى تقدم البلاد، ويحدث ذلك عندما نحقق تراكما فى التجربة المصرية يقوم على قاعدتين: الأولى أن الحوار لا يبدأ والدولة فى نقطة الصفر، أو كما لو كنا مازلنا فى بدايات التغيير الشامل فى البلاد بعد ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣، وإنما هو يجرى بعد ثمانية أعوام من العمل الشاق والبناء الواسع النطاق.
وقبل كتابة هذا المقال كانت وزارة التخطيط قد أعلنت أن مصر حققت خلال العام المالى الماضى (٣٠/٦/٢٠٢١ إلى ٣٠/٦/٢٠٢٢) معدلا للنمو قدره ٦٫٢٪، وحدث ذلك رغم قسوة "الجائحة"، وخسائر الحرب الأوكرانية. القاعدة الثانية هى أن الآمال معقودة أن نرتفع بهذا المعدل خلال السنوات الثمانى المقبلة إلى ٨٪ باعتباره القدر الذى ينطلق بنا إلى آفاق الدول الصناعية الجديدة التى انتقلت فى آسيا وغيرها من قارات العالم من الفقر إلى الغنى ومن التخلف إلى التقدم. ومن تجربة السنوات السابقة فإن تحقيق هذا الهدف ليس بعيد المنال لأن قدراتنا الفكرية والتكنولوجية تعيننا على تحقيق هذا الهدف؛ وينتظر أن نقبل على المرحلة المقبلة بناتج محلى إجمالى قدره ٤٣٨ مليار دولار، وإذا ما حسبناه بالقوة الشرائية للدولار فإن حجم الناتج يصير ١٫٤ تريليون دولار، وهو قدر ليس قليلا سواء كحجم سوق أو طاقة إنتاجية. صحيح أننا مازلنا بعيدين عن الهدف الأسمى ولكن هكذا كانت قصة الشعوب فى مسيرتها نحو الأعلى والأرقى الذى يضعنا فى مكانة أخرى بين دول العالم المتقدم.
أعرف أنه بين المشاركين فى الحوار من سيكونون من أنصار رفع الآلام والضغوط الواقعة على الشعب المصرى والتى تصاعدت خلال الشهور الأخيرة نتيجة الحرب الأوكرانية. وبالطبع فإنه لا يوجد بيننا من يريد استمرار هذا الألم، ولكن رفعه لا ينبغى له أن يكون على حساب رفع معدلات النمو، ولا مستقبل الأجيال المقبلة… المعاناة كانت فى كثير من الأحيان جزءا من القصة، وعقب هزيمة يونيو ١٩٦٧ كان الهدف القومى تحرير الأراضى المحتلة، وكان الثمن ست سنوات من المعاناة والشهادة.
وللأسف أنه بعد أن بدأت عجلة الانسحاب الإسرائيلى فى الدوران، وبدأت عملية التنمية ترتفع إلى معدلات نمو مرتفعة من خلال سياسة الانفتاح الاقتصادى فإن توجهات إزالة المعاناة وتوزيع الثروة فى صورة أشكال كثيرة من الدعم وتوظيف العاملين فى مؤسسات الدولة انتهت إلى مظاهرات ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٧، وبعدها اغتيال بطل الحرب والسلام الرئيس السادات. وللأسف فإن هذا الفصل من التاريخ المصرى، كان متكررا بين التقدم لسنوات قليلة ثم النكوص لسنوات طويلة.
التجربة العالمية تضيف بعدا ودرسا آخر لابد من وضعه فى الحسبان، خاصة تجربة الدول الصناعية الجديدة، حيث عاشت كلها سنوات كثيرة من المعاناة قبل أن تصل إلى مرحلة الانطلاق وإلى ما وصلت إليه الآن. قبلها احتاجت اليابان لعشر سنوات لإزالة تراكمات الحرب وتأثير استخدام القنبلة الذرية على هيروشيما وناجازاكي. وعشر سنوات أخرى لكى تعود إلى ما كانت عليه قبل الحرب كدولة صناعية متقدمة؛ وبعد عشر سنوات ثالثة بدأت المصانع اليابانية تدخل فى ثورات تكنولوجية متتابعة على استعداد وذات قدرة على منافسة الولايات المتحدة. ولكن تجربة اليابان كانت تجربة استعادة مجد سابق، ولكن الحالة فى كوريا الجنوبية كانت أمرا آخر ذاق مرارة الاحتلال اليابانى العنيف قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية. وبعد الحرب بأربع سنوات فقط نشبت الحرب الكورية التى بدأت بغزو كوريا الشمالية لكوريا الجنوبية وساعتها دخلت الجيوش الأمريكية لمحاربة التوسع الشيوعى مع بداية الحرب الباردة، وما ان وصل "ماك آرثر" قائد القوات الأمريكية إلى الحدود الصينية مع كوريا الشمالية حتى دخلت الجيوش الصينية كاسحة مكتسحة للجيوش الأمريكية لكى تعود على أعقابها إلى ذات النقطة الفاصلة بين كوريا الشمالية والأخرى الجنوبية لكى تنتهى الحرب أو تبقى الأوضاع على ما كانت عليه حتى الآن. وعليك أن تتصور ماذا فعلت الجيوش ذهابا وإيابا من تدمير، وحتى نهاية السنوات العشر الأولى، أى حتى وصلنا إلى منتصف الستينيات من القرن الماضى، كانت كوريا الجنوبية وفق كل المعايير الاقتصادية أرق حالا بكثير من الحالة المصرية، وبعدها انعكس الحال لأننا بتنا مشغولين بإدارة الفقر، أما هم فانشغلوا بإدارة الثروة.
«الحوار السياسى» موضوعه الأساسى هو كيف نصل إلى هذه المكانة، البنية الأساسية باتت جاهزة، وقدر غير قليل من بنية التعليم جرى تحسينها، والعالى منه دخلت عليها تغييرات ثورية فى نوعية من الجامعات عالية التكنولوجيا التى تستجيب للتغيرات العالمية الراهنة. التطورات التكنولوجية فى العالم المعاصر تعطينا قدرات كبيرة لملاحقة السابقين استجابة للنظرية التى تقول ان القادمين الجدد New Comers لديهم دائما فرصة كبيرة لأننا نأتى إلى آخر ما وصل إليه العالم.. "الاقتصاد الأخضر" فى مصر يقول لنا اننا ننطلق من هذه النقطة، ولم يكن ممكنا لنا أن نحقق مجابهة «الجائحة» و«الإرهاب» و«الحرب الأوكرانية»، وتحقيق معدلات نمو إيجابية فى كل الأحوال، إلا بالعمل الشاق من ناحية، واستخدام التكنولوجيات المتقدمة من ناحية أخري. السؤال الموجه للمتحاورين هو: كيف يمكن أن نصل إلى نقطة الانطلاقة الكبرى؟ ولا أدرى إذا كانت الرسالة قد وصلت أم أن التعقيد فيها لا يسمح، وكلما عرفنا أنه لا يجوز أن نعيد اختراع العجلة من جديد، ربما وصلنا إلى هدفنا بسرعة.