بقلم - عبد المنعم سعيد
فى تأبينى للراحل القدير «ياسر رزق» أشرت إلى كونه من «الجيل العظيم» الذى عبر «النكسة» إلى المشاركة فى تكوين المشروع الوطنى الذى نشاهده الآن الذى يبدو كما لو كان تجميعًا لأحلام وأفكار وطموحات تولدت عبر عقود. الفكرة نفسها تعود إلى الإعلامى الأمريكى الكبير «بوب بروكو» الذى كتب عن الجيل الذى عبر الكساد العظيم فى الثلاثينيات إلى الحرب العالمية الثانية وخرج منها بأمريكا القوة العظمى الأولى فى العالم. «الجيل العظيم» المصرى كان هو الجيل الذى شاهد غرق أجيال سابقة فى هزيمة يونيو ١٩٦٧، وخرج منها بالصمود والاستنزاف والحرب والدبلوماسية إلى مواجهة مع التخلف وآخذًا معه مصر إلى العصر الذى تعيش فيه فى أعقاب ثورة يونيو ٢٠١٣. كان طريق الجيل المصرى العظيم أكثر تعقيدًا بكثير من الجيل الأمريكى لأنه تكون من أحلام متفرقة فى مجالات متعددة لم تنجح النخب المصرية المختلفة فى وضعها داخل نسق واحد للبناء والتقدم. وكان نصيب د. لواء محمد قدرى سعيد هو الحلم العلمى والتكنولوجى الذى يأخذ بذراع مصر ويضعها فى صفوف الدول الناهضة والمتقدمة. كان طبيعيًّا أن يدور بيننا نقاشات مطولة عن الهزيمة ليس كما ذاع عن المسؤولية فيها، وإنما عما إذا كانت هناك أمور هيكلية فى البنية المصرية تستوجب إصلاحات تاريخية، وبدت حرب أكتوبر ساعتها تمثل إطلالة على المستقبل المختلف. كانت وجهة نظره أنه على الحرب أن تكون نقطة فارقة فى التسليح المصرى وفى الفكر الحداثى العلمى فى البلاد. كان فى رأيه أن مصر خسرت كثيرًا فى مشاريع لم تكتمل مثل مشروع صواريخ «القاهر» و«الظافر»؛ ومشروع إنتاج طائرة مقاتلة مع الهند فى النصف الأول من ستينيات القرن الماضى. وفيما بعد عندما خرج من القوات المسلحة والتحق بأسرة مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية وضع على كاهله أن يعاود دراسة هذه التجارب، ومن ثم جمع كل من شاركوا فى هذه المشروعات لكى نتعلم منهم ليس فقط ما كان سيقدمه المشروع للبناء العلمى والتكنولوجى المصرى، وإنما كيف كان وأدها دلالة على ما فى المنظومة من عيوب ظلت تطارد الفكر العلمى المصرى فى جوانبه المتعددة.
فى حدود ما أعلم، وأذكر، فإن تجربة الطائرة بما لها وعليها جرى إصدارها فى كتاب؛ أما تجربة الصواريخ فقد جرت بشأنها ورش عمل واجتماعات كثيرة، ولكن ليس معلومًا ما انتهت إليه. وعندما آلت إليه عضوية مجلس إدارة منظمة «الباجواش» العالمية فإنه بذل جهدًا فى أن تكون مصر عضوًا فعالًا فيها وهى المهتمة بسباق التسلح النووى وأن تقدم لمصر ما تستحقه من خبرة. ولم تكن تجربتى الشخصية أقل غنى، فعندما كنت أعد لكتابى «العرب ومستقبل النظام العالمى» (مركز دراسات الوحدة العربية، ١٩٨٧) فقد كان هو من لفت نظرى أولًا إلى دور التكنولوجيا فى تحديد توازنات القوى فى العالم؛ وثانيًا إلى الفارق الضخم فى التطور التكنولوجى بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى؛ وثالثًا أنه نتيجة هذا الفارق الضخم فربما كان الأخير فى طريقه إلى الأفول. والحقيقة أنه كان كريمًا بغير حدود فى تزويدى بمراجع ومصادر عالمية حول التطورات التكنولوجية فى العالم، وما تسير فيه من اتجاهات ليس فقط الرقمية أو المعلوماتية وإنما ما ارتبط فيه بالفضاء؛ باعتباره ساحة البشر المقبلة إلى ما وراء كوكبهم من أكوان. لكن اهتمام قدرى بالفضاء لم يكن اهتمامًا فضوليًا مندهشًا، وإنما لأن الوصول إلى الفضاء يبدأ بالصواريخ ليس فقط تلك التى تحمل الأقمار الصناعية، وإنما تلك التى تبدأ بحركة المواصلات والأحمال من وإلى الكوكب الأرضى. كان الاهتمام بالصواريخ جزءًا من فهمه كيفية حماية الأمن القومى المصرى وامتلاك مصر أدوات تحمى وتردع.
كان هذا الجزء الأخير معبرًا عن طموحاته لحماية مصر، وفى هذه فقد كان حريصًا وكتومًا؛ وعندما عملنا معًا فى كتاب «الأفكار والأسرار ١١ سبتمبر ٢٠٠١» كان قدرى يطل على جانب آخر من التهديدات الموجهة لمصر والعالم. كان قدرى يحب جماعة العلوم السياسية، ولكنه كان كثيرًا ما كان يتعجب منها وما فيها من جدل، ولكنه كان حريصًا دائمًا على زرع العلم والتكنولوجيا إلى داخل النظام العام. مرت الأعوام والعقود، وفى أوائل عام ٢٠١٤ ذهبت إلى الولايات المتحدة وكانت كل أشكال الجسور قائمة اتصالًا وحديثًا ولكن بعد العودة فى ٢٠١٦ أخذت الشمعة المتوهجة تذبل، والعين اللامعة تنظر إلى عالم لا نعرفه، تمكن منه «ألزهايمر» حتى ذهب إلى حيث يوجد العظماء، ربما فوق كوكب لم يكتشفه أحد بعد!.