بقلم :عبد المنعم سعيد
حدث اليوم وربما الأسبوع والشهر، أو حتى يحدث حادث كبير آخر، هو الخروج الأميركي قبل موعده من أفغانستان، ودخول «طالبان» بدلاً منها في العاصمة «كابل». الحدث فيه الكثير من المفاجأة بعد أن أعد الناس والمهتمون أنفسهم في ألا تحدث مواجهة. فقد أعلنت الولايات المتحدة عن عزمها على الانسحاب قبل حلول العيد العشريني لأحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 المروعة؛ ولم يكن قد بقي إلا أسابيع، أو حتى أيام قليلة حتى يحل الموعد. وكذلك لم تكن هناك مفاجأة فيما يخص طالبان، وأنها هي الطرف الآخر الذي سوف يتم تسليمه مفاتيح السلطة، لأنه الطرف الذي جرت معه المفاوضات في الدوحة منذ عهد الرئيس السابق ترمب.
كانت المفاوضات تجري على الطريقة التي أجراها هنري كيسنجر مع «الفيتكونغ» الفيتناميين الذين كانوا من الشيوعيين الأصوليين، ومع ذلك فإنهم كانوا يتفاوضون ويتحدثون عن مشاركة ونقل للسلطة بعد الخروج الأميركي. هذه المرة كان الوفد المقابل للولايات المتحدة من الإسلاميين، بهيئاتهم المعروفة، وأغطية رؤوسهم اللامعة، وجلابيبهم القصيرة، والمغطاة بسديري أسود. في الحالتين خُدعت الولايات المتحدة بسهولة، والأحرى أنها كانت مستعدة لكي تُخدع، والمهم أن تتخلص من كابوس لا ينتهي في حرب أبدية لا نهاية لها. وبدأت المفاجأة وصليل الزمن يطاردها أن الجدول الزمني الذي وضعته الولايات المتحدة لنفسها في الانسحاب ليس هو الجدول المناسب لطالبان. ومن درسوا العلاقات الدولية يعلمون أنه هناك دائماً مساحة كبيرة في الأحداث الكبرى لما لم ينتوه أحد أو خطط له أو تصور حدوثه. هنا كانت المفاجأة أن الأفغان الرسميين كانوا مستعدين للاستسلام، بقدر ما كانت طالبان مستعدة لتجاوز البرنامج الموضوع، والجدول الزمني الأميركي المحدد، وعندما استمع الأميركيون لزحف طالبان ماراً ومستولياً على ولاية بعد الأخرى لم يكن هناك أحد على استعداد لا لمراجعة البرنامج ولا الجدول الزمني.
دخلت طالبان كابل من مداخلها الأربعة بعد ساعات تكررت قصة استسلام الجيش، وتم التفاهم مع القيادات المحلية؛ لا كان هناك قتال، ولا معارضة، وللتاريخ لم تكن هناك ورود تزين أعناق «المجاهدين».
حديث المفاجأة والأسئلة الكثيرة تغطي الولايات المتحدة كلها، وهي التي بات عليها أن تنتقل من مرحلة التخطيط إلى مرحلة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من البشر -الأميركيين أولاً والغربيين ثانياً والأفغان بعد كل شيء– ومن السلاح أيضاً بعد أن بدأت طالبان تستولي على كل شيء. في منطقتنا كان هناك نوع من الذهول، وعندما تكون الحالة هكذا فإنها تفتح الباب لما يفتح في كل مرة تحدث فيها هذه الحالة، وهو حديث المؤامرة. سيرتها تسير هكذا، لما كانت الولايات المتحدة أقوى دول العالم، فلا بد أن في الأمر لعبة... طالبان تحصل على دولتها مرة أخرى، مقابل أن تبدأ في استنزاف الصين، وربما روسيا إذا أرادت، وكلاهما منافس إن لم يكن عدواً للولايات المتحدة. المؤامرة الأخرى يتغير فيها الممثلون، ولكن المسرحية باقية على حالها لصالح أميركا التي ترى أن الإرهاب هُزم في مناطق كثيرة، ولذا بات لازماً إشعاله مرة أخرى عن طريق عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل عقود. القريحة تجود دائماً بما هو أكثر من أشكال التلفيق التآمري على أمور لا يستطيع أحد إثباتها، والأهم أنه لا أحد يسعى إلى ذلك. ولكن الثابت هو أن رد الفعل الرسمي والإعلامي العربي فيه قدر غير قليل من الوجوم. كان فيه الكثير من الانتظار الحميد، والأرجح أنه مع الانتظار كان هناك الكثير من الاتصال والتشاور، والتقدير للموقف.
وأول ما في هذا التقدير هو أن دولة أفغانستان دولة حبيسة وفقيرة ولم تشهد على مدى أكثر من نصف قرن إلا حروباً ونزاعات تهافتت أحياناً، إلا أنها كانت عنيفة في كل الأحوال. وأحياناً فإن هذه الحروب كانت ضد السوفيات، ومن بعدها كان النزاع الداخلي والحروب الأهلية التي امتزج فيها الدين مع الطائفية، وعندما تفجر عن ذلك أبراج نيويورك كانت النتيجة غزواً أميركيا وصل بعد أربعة رؤساء إلى ما وصلنا إليه.
الحالة الأفغانية ربما سوف تهم أطرافاً أخرى، أكثر مما تهمنا، فهناك الصين على هيبتها، والهند على قدراتها، وباكستان على سلاحها النووي، وربما روسيا وحلفاؤها بما تملك وما تقدر. وحتى أميركا التي سوف تنتهي إقامتها قبل حلول الخريف فإنها لن تكون بعيدة، فأقمارها الصناعية سوف تراقب، وسفنها الحربية سوف تقترب، وحاملات طائراتها سوف تضرب من دون أن يوجد لديها ما تخاف عليه.
ما يهمنا هو أن لدينا في المنطقة العربية مشروعاً للتقدم ويصاحبه مشروع آخر للأمن وكلاهما متزامن ويعضد بعضه بعضاً، وهذا المشروع مهدد من قبل جماعات متشددة، ومن دول في الجوار القريب تحاول الاختراق والتأثير. الأصل لدينا ينبغي له الاستعداد لمواجهته، ولكن لا يمكنها أن تضيف الكثير إلى ما لدينا بالفعل من تهديدات. وبينما يكون الحفاظ واجباً على مسيرة الإصلاح وبناء عناصر القوة من دون تراجع أو تهاون، فإن المراقبة والاستعداد يكونان مصاحبين لجدول الحماية. والحقيقة أن لا أحد يعرف كيف ستسير الأمور في كابل بعد، وعما إذا كانت طالبان بعد عشرين عاماً من القتال ما زال لديها زخم وقدرة، وعما إذا كانت أفغانستان كلها لن تفرز شيئا بعد عقدين من التحديث.
ما يهمنا في الواقع يقع معظمه داخلنا لبناء مناعة جرى اختبارها من قبل، ولا بد من دعمها. ما نحتاجه أكثر هو بناء إقليمي موجه، لما يحدث في سوريا والعراق واليمن وليبيا لأنها دول متغلغلة بخيرها وشرها في لحم المنطقة العربية. أفغانستان جزء من إقليم آخر، لكن حجم ذلك فيما يخصنا أقل مما يشغل بال عواصم أخرى كبيرة. الصين حتى وصلت المفاجأة في كابل، كانت وجهة نظرها الاقتراب من طالبان متمنية التوفيق لأنها تريد لمشروع الحزام والطريق أن يمر عبر أفغانستان، وروسيا كانت حذرة، والهند منتظرة، كل دولة قدرت مصالحها وعلى أساسها تحركت، وهكذا كان الدرس.