بقلم :عبد المنعم سعيد
الشائع أن الصين «لغز» كبير صعب الفهم والحل، والشائع أكثر أنه طالما في الأمر أحاجي لا نفهمها فإن التعامل مع بكين يكون بوضعها في سلة أو سلال قوى دولية نعرفها في التاريخ المعاصر أو أنها كانت في الطريق القديم. بين هذا الشائع وذاك فإن قضية فهم الصين تصبح مطروحة بضجيج كبير كلما جد جديد في العلاقات الدولية، فإذا حدث وجاء رئيس أميركي جديد فإن موقفه من الصين وموقف الصين منه ربما يطلعنا على بعض من الفهم لقوة دولية جبارة. الحدث الجاري الآن ودفع الصين إلى المقدمة للبحث عن موقفها ورد فعلها يدخل في هذا الإطار الذي يشير إلى أنه لم تعد تكتمل قصة عالمية ما لم يكون واضحاً فيها أو مطلوباً من الباحثين البحث عن هذا الوضوح فهو عن الصين التي هذه المرة حدث أنها قريبة ولصيقة بالأحداث المثيرة التي جرت في أفغانستان.
يوم الأحد أغسطس (آب) الجاري سيطر مقاتلو طالبان على كابل، وسلموا الجماعة الإسلامية الجائزة التي طالما سعت إليها: السلطة على كل أفغانستان مع انهيار الحكومة المدعومة من أميركا، وفر الرئيس أشرف غني، وبدا الوجود الأميركي كأنه يقترب من نهاية مفاجئة وفوضوية بعد ما يقرب من عاماً من التواجد. استغرق الاستيلاء على العاصمة سنوات في التبلور، ولكن تم الانتهاء منه في نهاية المطاف في يوم واحد.
لم تواجه طالبان التي بدأت غزوها لكل مراكز المقاطعات الأفغانية، مقاومة تذكر عند دخولها المدينة في الصباح. بحلول المساء، كانت الحركة تجري مقابلات تلفزيونية في القصر الرئاسي الفخم، بعد ساعات فقط من مغادرة غني لأفغانستان.
ما بقي بعد ذلك تفاصيل، ومنها أن الصين لم يبد عليها انزعاج يذكر، وكان أول رد فعل رسمي لها هو الاستعداد للتعامل مع طالبان، وبقيت السفارة الصينية مفتوحة، وفيها من الدبلوماسيين من هو على استعداد للحديث.
في عام ، قبل عشرين عاماً تقريباً، كانت زيارتي الثانية للصين وفيها جرى لقاء في وزارة الخارجية الصينية، وهناك أثرت السؤال الطبيعي وقتها عن موقف الصين من التواجد العسكري الأميركي الكثيف في أفغانستان على الحدود الصينية. وكانت الإجابة عكس تماماً ما كنت قد قرأته في مصادر أميركية عن انزعاج يصل إلى حد الشعور بالتهديد من تواجد القوات الأميركية بهذا القرب، حيث قال المسؤول رفيع المستوى إن الصين لا تشعر بهذا أو ذاك، بل إنها ترى فائدة في أن يقوم الأميركيون بمهمة الدفاع عن الصين من خلال التعامل مع حالة من التطرف والإرهاب وعدم الاستقرار السائدة تحت حكم طالبان. وقتها تذكرت ما ذكرته مصادر عديدة أثناء الحرب الفيتنامية من أن الصين كانت ترى أيضاً في الأمر فائدة وهي تقريب «اللحم الأميركي» من اليد الصينية في فترة لم يكن فيها التوازن العسكري الصيني الأميركي لصالح الصين، ولا كانت هذه الأخيرة تقدر على الوصول إلى الأراضي الأميركية.
خلاصة القول هي أن للصين طريقتها الخاصة في تكييف المواقف المختلفة بحيث لا ترى فيها الفائدة فقط، وإنما ترى أيضاً ما فيها من فرص. ولعل ذلك يعد أول مفاتيح فهم التوجهات والسلوكيات الصينية، فلا يمكن تفصيلها على ما تعودنا عليه من أفكار تقليدية حول أن التواجد العسكري القريب للخصوم يكون سبباً للانزعاج. ولعل مثل هذا المفتاح يقودنا إلى فهم كيف أن الصين الدولة التي يوجد بها خمس سكان الأرض وعلى مساحة تقترب من مساحة الولايات المتحدة، صبرت كثيراً على ابتعاد قطع لا يخالف أحد أنها جزء من أراضيها مثل هونج كونج ومكاو وتايوان، وكلها أجزاء من «صين واحدة» ومع ذلك فإن الدولة الصينية لم تمانع أبداً في أن يعود المفقودون في ظل دولة واحدة ذات «نظامين» أحدهما رأسمالي والآخر شيوعي وإن اختلط ببعض الرأسمالية. لم تخض الصين حرباً من أجل هذه الأجزاء السليبة.
المفتاح الآخر للصين هو أنها في الأساس «المملكة الوسطى» التي يأتي لها العالم، ولكنها حينما تذهب إليه فإنها تذهب وفق قواعد تراها مخالفة لما تراه هي في ذاتها من ضرورة «الانسجام» الذي يبدأ من الفرد حتى يصل إلى الدولة حيث توجد «المدينة المحرمة» للسلطة حيث يوجد الانسجام الكامل. في خارج ذلك فإن الصين لا تجد مشكلة في التعامل مع أطراف مختلفة أو متنافسة أو متخاصمة أو حتى معادية، فهي تقوم ببناء ميناء حيفا في إسرائيل، في الوقت الذي تشارك في بناء العاصمة الإدارية المصرية، بينما توقع اتفاق تعاون متعدد الأبعاد مع إيران. المبادرة الصينية الأساسية في العلاقات الدولية هي «الحزام والطريق» الذي يدور حول الكرة الأرضية مقدماً ممرات للتجارة والانتقال والتواصل. بعبارات أخرى فإن الصين تقيم «العولمة» على طريقتها الخاصة، وهي على استعداد للحركة بسلاسة من أفغانستان حتى تصل إلى قناة السويس.
المفتاح الثالث يقيم دول العالم وتكتلاته حسب مشاركتها في هذه «العولمة» الصينية التي تعلم فيها الصين جيداً أن للولايات المتحدة نصيباً كبيراً من السوق العالمية؛ ولا توجد صدفة إطلاقاً أن الصين لديها أكبر احتياطي من الدولارات في العالم بعد الولايات المتحدة، كما أنها أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، ولديها كم أعظم من الاستثمارات الأميركية، وكذلك الحال في الاستثمارات الصينية في أميركا.
الصين لها طريقتها الخاصة في التعامل مع السوق العالمية، ومن المؤكد أنها لا تريد نفسها وحيدة في هذه السوق، وفي نفس الوقت تعلم أنه طال الوقت الذي حصلت فيه الصين على الفائدة القصوى من النظام الاقتصادي العالمي الذي كان يعاملها معاملة دول العالم الثالث الفقيرة. خرجت الصين من فقرها واستعدت لهذه اللحظة بتطورات تكنولوجية ضخمة تصل بها إلى الفضاء، واستعداد للتخلي عن صناعات بأكملها لدول العالم الفقيرة مثل الغزل والنسيج ولعب الأطفال التي شغلت البداية الأولى للصناعة الصينية.
مثل ذلك يوفر أرضية مناسبة لتفاهم أميركي صيني، وإذا كان في الأمر منافسة كما يرى الرئيس الأميركي جو بايدن، فلا بأس، وهناك فارق كبير بين المنافسة وكل من النزاع والصراع اللذين سيطرا على وجهتي نظر في الولايات المتحدة: على اليمين حيث يوجد ترمب ويريد أن ينزع الصناعات الأميركية الراقية مثل «آبل» ويعيدها إلى الولايات المتحدة؛ وعلى اليسار حيث توجد جماعات وحركات حقوق الإنسان والديمقراطية ولا ترى في الصين ودول العالم الأخرى إلا مسافة زادت أو قلت من آيديولوجيات ليبرالية لا يجد فيها المسؤولون الصينيون داخل الصين إلا الهراء الذي لا يحفظ بلداً ولا يقيم صناعة ولا يقود إلى ابتكار.
الحكاية الصينية أكثر تعقيداً وتركيباً من كل ما سبق، وهي حكاية تستحق الاكتشاف والاستكشاف، لأن الصين لم تعد ساكنة في المدينة المحرمة، فهي الآن سوف تكون موجودة وحاضرة وعلينا أن نفهمها بقدر ما نستطيع.