توقيت القاهرة المحلي 06:29:06 آخر تحديث
  مصر اليوم -

رأس المال الدائم؟!

  مصر اليوم -

رأس المال الدائم

بقلم: عبد المنعم سعيد

فى مقال الأسبوع الماضى عن تشكيل الوزارة الجديدة، وما ذكرته أن واحدة من مهامها هى بعث كل ما لديها من «رأسمال» ميت ابتداء من ٨٥٠ ألف كيلومتر مربع لم تستغل بعد؛ ولكنها أصبحت متاحة بفعل البنية الأساسية الجديدة؛ وحتى «تشغيل التغيير» أى الاستفادة من كل التغييرات التى جرت على الأرض من مناطق صناعية إلى بحيرات بحرية إلى مدن جديدة، كلها قابلة وجاهزة للاستثمار. ما نضيفه هنا هو أن هناك ما هو مصدر لرأس المال الدائم الذى لا ينضب والنابع من ثقافتها التاريخية وموقعها الجغرافى. ما لفت نظرى إلى هذه الثروة التى تختلف عن الثروات التى تنضب مثل البترول والغاز هو «البودكاست» «ما هو الحل؟» الذى أدارته د. رباب المهدى مع عالمة الآثار باكينام حنا الذى قام على حجة هامة وهو دور الثقافة المصرية الغلابة على كل ما تقاطع مع مصر من حضارات بحيث تستوعب القادمين إلى داخلها وتتفاعل معهم بفيض من التأثير. وبغض النظر عن النقطة الهامة التى أثارتها العالمة من الجهود الكبرى لفصل الواقع المصرى الحالى عن هذه الحضارة التى تحولت عمليا إلى نوع من «العُهْدَة» التاريخية لدى الحكومة المصرية مع انفصال غير قليل مع الجمهور المصرى؛ فإن المسألة، كما كل المسائل، هى كيف نغير ذلك، وجعله من وظائف الحكم وواجبات الحكام إزاء المحكومين.

قبل عقد تقريبا وفى عام ٢٠١٤ قرأت كتاب «توبى ويلكنسون» «النيل: رحلة إلى أدنى النهر قاطعا فى مصر ماضيها وحاضرها». الكتاب بالغ الغنى من زوايا كثيرة، ولكن ما لفت النظر هو وجود الكثير من الآثار الفرعونية داخل الصحراء الشرقية من معابد وغيرها دون معرفة ذائعة بها نظرا لأنها ببساطة ليست على الخطوط القائمة للسياحة المصرية، فلا يصلها طريق ولا سكك حديدية ولا مطارات ولا شركة تعرف ماذا تفعل بها. حتى وقت قريب كان ذلك أيضا صادقا على الصحراء الغربية التى ثبت أن بها فيضا من الآثار والمعابد المصرية التى يحتمل أنها كانت تقوم على ضفاف نهر أو أنهار نيلية أخرى. كانت هذه المعلومات تعطى مصداقية للقول الذائع إنه يوجد فى مصر ٧٠٪ من آثار العالم، وثلثاها لم تكتشف بعد. وقبل أسابيع نشر «جو مارشانت» مقالا فى «مجلة السمسونيون» التى تصدر عن معهد «Simthonion» الشهير فى واشنطن بعنوان «الحضارة المصرية القديمة المدفونة» والذى يحكى قصة ميناء مصرى قديم «بيرنايك أو Berenike» قريب جدا من البحر الأحمر ويحتوى على ما يشير إلى علاقات وثيقة لحضارات العالم المختلفة وجماعات بشرية فى الجزيرة العربية وشرق إفريقيا وبعيدا حتى الهند. الميناء به معبد «إيزيس» الركن الأساسى فى الديانة الأوزيرية؛ ولكن معه كانت الإشارات لبضائع وأطعمة ومعابد بوذية؛ أما المدينة الملاصقة له ففيها أسواق ومعابد ومناطق إدارية تمنح تصاريح الإقامة ورسوم الجمارك.

الخلاصة أن مصر بالجغرافيا والديموغرافيا لم تكتشف كلها بعد، وإذا كان المكان عبقريا من حيث وسطيته ومركزيته فى العالم القديم، فإن المصريين كان بوسعهم استيعاب حضارات كثيرة والتواصل معها فى تبادل دائم للمعرفة والسلع. من جاءوا إلى مصر من إغريق ورومان تلبسوا الحضارة المصرية وانتفعوا من غناها حتى أصبحوا جزءا منها. سيرة الملكة «كليوباترا» آخر ملوك الإغريق على مصر فضلا عن معرفتها بلغات القوى الكبرى فى عصرها فإنها كانت تعرف اللغة المصرية القديمة بإتقان، وكان ذلك حال سبع ملكات باسم كليوباترا أيضا سبقنها، ولم تكتب الشهرة فى عالمنا إلا مع الأخيرة ولكن جميعهن مع اللغة كان لا بد من تتويجهن وفقا للطقوس والتقاليد المصرية. ما الذى جرى لذلك كله وقطع الصلة بين مصر ورأسمالها الدائم؟، إنه قضية ولاية المؤرخين والعلماء، ولكن السياسة دورها ليس فقط توزيع الموارد، وإنما أكثر من ذلك اكتشافها أو إعادة اكتشافها واستثمارها وإتاحة الفرصة لمن يستثمرها. وهنا، وعلى الأرجح، تكمن إشكالية الخلافات التى تكثر عادة بين العلماء ورؤيتهم وعما إذا كانت تبقى الآثار على حالها بعفتها، وحمايتها من منطق الحضارة الحديثة ومواكب السائحين، وفيهم المثقف الذى يحمى الماضى وينعم بعمق المعرفة فيه، ومنهم الذى جاء لمشاهدة آثار عجيبة والاستمتاع بالدهشة إزاء عظمة التاريخ القديم. الإشكالية تتعمق أكثر عندما ينفصل رأس المال الدائم عن الجمهور المصرى صاحبه ومالكه وأول المسؤولين عنه دونما وعى وتفاعل يعبر عنه ما بين المصريين أنفسهم، وما بينهم وبين زوارهم.

مثل هذه الإشكاليات ليست جديدة على العالم ولا علينا وبالتأكيد مع المتخصصين، وما نحتاجه ربما هو التعرف القريب من التجربة العالمية فى هذا المضمار؛ وفى نفس الوقت التعود أن فى الأمر مدارس مختلفة، كل منها يعتقد فى أصالته المطلقة؛ ولكن الحكمة يمكنها أن ترجح وتختار. المهم دائما أيا كانت خيارات الحكومة فهو حماية ما تقوم به من تغيير مع قدر كبير من الحزم والحسم. أدهشنى كثيرا ما جرى من تغيير فى طريق صلاح سالم، حيث قامت الجدران فى قدر غير قليل من الأناقة، ومن الواضح أنه جزء من المشروع الأكبر لتطوير منطقة الفسطاط. من يراقب الطريق بصورة منتظمة فى عملية تطويره لا بد أنه وضع يده على قلبه عما إذا كان المشروع سوف يكتمل أو لا، وإذا اكتمل ما الذى سوف يحدث له. عادة فإن مثيله من الإصلاحات فى السابق كان سرعان ما يبدأ إفساده عن طريق استخدام تكنولوجيا كتابة أرقام تليفونات ورش إصلاح السيارات، ومعاهد تحفيظ القرآن. الجديد الذى أضيف فى طريق صلاح سالم هو نزع أجزاء من مربعات الحوائط فتأخذ طريقها إلى العرى. الأمر كله ينطبق على أنفاق الطريق الدائرى التى جرى تغطيتها بالقيشانى الذى يمكن انتزاعه بسهولة.

حماية «التغيير» فى مشروعات رأسمال مصر الدائم هى التى تعطينا الفرصة لمعرفة مقداره وتأثيره وتسويقه والمدى الذى يكون فيه متفاعلا مع الجمهور الذى يعيش فيه وحوله. المؤكد أن الواقع ما قبل مشروعاتنا الحديثة كان مأساويا من كل جوانبه؛ ولكننا لا نستطيع تجاهل الفجوة الثقافية والفكرية التى تحول التغيير وبسرعة كبيرة إلى واقع لا يقل مأساوية عما سبق. فى عام ١٩٨٧ كنت فى مؤسسة بروكينجز عندما ذهب صديقى د. وليام كواندت بزيارة القاهرة للمشاركة فى افتتاح أحد مشروعات المعونة الأمريكية، وعندما عاد قال لى ما بين المزاح والأسى إن المصريين لا يعرفون مفهوم «الجديد»، فلا بد أن يتحول كل شىء وبسرعة بالغة إلى مفهوم «العتيق» الذى يتناسب مع تاريخ طويل فى تحويل حتى ما هو حديث إلى أثر. كان قد مضى على انتهاء مبنى المشروع ثلاثة شهور فقط عندما جاء وقت الافتتاح كان قد تحول إلى أمر تاريخى آخر.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

رأس المال الدائم رأس المال الدائم



GMT 08:19 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

إيران بدأت تشعر لاول مرة بأن ورقة لبنان بدأت تفلت من يدها

GMT 07:29 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

الكتابة في كابوس

GMT 07:28 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان ليس «حزب الله»... وفلسطين ليست «حماس»!

GMT 07:27 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

جرائم حوادث السير في شوارعنا

GMT 07:26 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

نعم... وقت القرارات المؤلمة

GMT 07:25 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

حماية لبنان ليست في «القوّة»... أيّة «قوّة»

GMT 07:24 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

مرّة أخرى... الحنين للملكية في ليبيا وغيرها

GMT 07:23 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

مقتل السنوار... هل يوقف الدمار؟

هيفاء وهبي بإطلالات متنوعة ومبدعة تخطف الأنظار

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:01 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

ختام فعاليات أسبوع الموضة في الرياض 2024
  مصر اليوم - ختام فعاليات أسبوع الموضة في الرياض 2024

GMT 09:36 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

البرتغال وجهة سياحية جاذبة لعشاق الطبيعة على مدار العام
  مصر اليوم - البرتغال وجهة سياحية جاذبة لعشاق الطبيعة على مدار العام

GMT 09:49 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

طرق العناية بالأجهزة الإلكترونية في المنزل
  مصر اليوم - طرق العناية بالأجهزة الإلكترونية في المنزل

GMT 08:38 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

تطوير مادة موجودة في لعاب السحالي للكشف عن أورام البنكرياس
  مصر اليوم - تطوير مادة موجودة في لعاب السحالي للكشف عن أورام البنكرياس

GMT 22:40 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

روبي و نيللي كريم معًا في رمضان 2025 بـ«ناقص ضلع»
  مصر اليوم - روبي و نيللي كريم معًا في رمضان 2025 بـ«ناقص ضلع»

GMT 20:41 2020 الأربعاء ,02 كانون الأول / ديسمبر

أحمد الفيشاوي ينفي تغيير كلمات أغنية "نمبر 2"

GMT 18:59 2020 الأربعاء ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

إصابة جونيور أجاي فى نهاية تمرين الأهلي وفحص طبي غدًا

GMT 06:30 2020 الإثنين ,26 تشرين الأول / أكتوبر

أسعار الدواجن في مصر اليوم الإثنين 26تشرين أول /أكتوبر 2020

GMT 06:09 2020 الأربعاء ,21 تشرين الأول / أكتوبر

محمد هنيدي يكشف حقيقة سخريته من الراقصة البرازيلية لورديانا

GMT 17:50 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

أهم وأبرز إهتمامات الصحف الليبية الصادرة الثلاثاء

GMT 05:52 2020 الثلاثاء ,19 أيار / مايو

محمد حماقي ينعى الشيخ صالح كامل

GMT 23:14 2020 السبت ,07 آذار/ مارس

أسعار الحديد في مصر اليوم السبت
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon