توقيت القاهرة المحلي 10:22:08 آخر تحديث
  مصر اليوم -

السلام وجيمى كارتر!

  مصر اليوم -

السلام وجيمى كارتر

بقلم: عبد المنعم سعيد

يقال إنه كثيرًا لا تُعرف قيمة الناس إلا بعد وفاتهم؛ ولا تستثنى الولايات المتحدة من القاعدة. الإعلاميون والساسة فجأة أعطوا القيمة الكبرى والتى يستحقها الرئيس ٣٩ جيمى كارتر (١٩٧٧ -١٩٨٢) نظرًا لدوره فى إقامة السلام المصرى - الإسرائيلى (١٩٧٩)؛ ودوره فى الأعمال المدنية والإنسانية التى منحته جائزة نوبل للسلام. حصل كارتر على الكثير من الاهتمام ما بين وفاته فى مدينة «بلين» الصغيرة فى ولاية جورجيا وحتى إقامة الشعائر التاريخية فى واشنطن العاصمة ومن بعدها دفنه حيث جاء. القيمة التاريخية لكارتر فى السياسة والعمل المدنى قلل منها دائمًا أنه خدم فى البيت الأبيض لفترة رئاسية واحدة انقلبت فيها السياسة الأمريكية من الحزب الديمقراطى الذى حمله إلى مقعد الرئاسة بعد عهد جمهورى شهد فضيحة ووترجيت، ونهاية حرب فيتنام بفضيحة استراتيجية عظمى. وقتها كانت أمريكا تمر بفترة اغتسال وتطهر أخلاقى وسياسى سادت فيها فجاجة ريتشارد نيكسون؛ وصخب التغيير الجيلى للرافضين التجنيد فى الجيش، والمثيرين للضجيج فى الجامعات، وشعارات الحب فى الحدائق. كارتر جاء حاملًا معه الدعوة إلى حقوق الإنسان، ونظافة السياسة من الفساد والكذب، وفى طريقه فاجأه الرئيس السادات بالدعوة إلى السلام فى الشرق الأوسط، فجاءته فرصة سياسية انتهزها بالسعى نحو عقد مؤتمر دولى للسلام العربى الإسرائيلى. المصرى فاجأه مرة أخرى عندما قرر الذهاب إلى القدس لكى يحقق مفاجأة للرأى العام الإسرائيلى لم يحدث لها مثيل منذ مفاجأة ٦ أكتوبر ١٩٧٣ التى مهد فيها السلاح للدبلوماسية والسياسة. كانت القاهرة سابقة على واشنطن فى الحالتين الحرب والسلام؛ وكان كارتر مهيأً أخلاقيًا وسياسيًا لتحقيق أول معاهدة للسلام غيرت من الطبيعة «الوجودية» للصراع لكى يصبح استراتيجيًا وسياسيًا بات أكثر ميادينه فكرًا وإبداعًا عندما انعقد مؤتمر كامب ديفيد تحت رعاية الرئيس الأمريكى.

كنت قد وصلت إلى الولايات المتحدة فى نهاية سبتمبر ١٩٧٧؛ وفى غمرة السعى نحو الاستقرار جرت الأحداث المثيرة الواحدة بعد الأخرى، مفاجئة لأحد المصريين الذين عاشوا الحرب وفجأة كان الحديث عن السلام مثيرًا للأمل، ولاسعًا من كم الانتقادات والهجوم الذى أتى من الرفاق العرب فى الجامعة. لدارس فى العلوم السياسية فإن شخصية كارتر فى المحيط الأمريكى، والسادات فى المحيط المصرى والعربى باتت قريبة من مركز السياسة الدولية، وفى قلب مستقبل العالم والشرق الأوسط. وحينما هلت بشائر الانتخابات الرئاسية الأمريكية التالية، ونجح كارتر فى تخطى عقبة الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطى فائزًا على «إدوارد كينيدى»، ظننت أن طريقه إلى ثانية ممهد بدرجة عالية من اليقين. ولما كنت قد بدأت التدريس فى جامعة شمال إلينوى بينما انتهيت من أطروحتى للدكتوراه فقد جربت إجراء تصويت لتلاميذى البالغ عددهم ٤٥ طالبًا وطالبة. المفاجأة الكبيرة كانت أنه كان هناك شبه إجماع على المرشح الجمهورى رونالد ريجان، الممثل والمحافظ وكبير السن. التصويت دفعنى إلى كثير من التفكير، كان العالم قد تغير كثيرًا وفى قلبه الشرق الأوسط. كان الاتحاد السوفيتى قد غزا أفغانستان، ونشبت الثورة الإيرانية. والأخطر أنه تم اغتيال الرئيس السادات، واصطف التلاميذ لتعزيتى فى وفاته باعتبارى أقرب المصريين لهم. كان العالم قد دخل ما بات معروفًا وقتها بالحرب الباردة الثانية؛ أما الشرق الأوسط وبعد أول معاهدة للسلام يسير فى مساره الدائم حينما نشبت الحرب اللبنانية فى صيف ١٩٨٢. خرج كارتر من البيت الأبيض بينما ينتظر ركوب الرهائن الأمريكيين الذين اختطفهم الحرس الثورى الإيرانى إلى الطائرة التى احتجزها الخمينى حتى قام ريجان بحلف اليمين.

فى الذهن ظل الرئيسان كارتر والسادات وقضية السلام فى الشرق الأوسط ملحة على مدى العقود التالية؛ وعندما جرت حرب الخليج لتحرير الكويت أقدم الرئيس جورج بوش الأب على عقد مؤتمر مدريد للسلام، وجاءت نسائم إمكانية التعايش فى المنطقة. وكما هى العادة فإن التعايش والسلام تقف فى وجههما عمليات الاغتيال والعنف من قوى غاشمة؛ وهذه المرة جرى الاغتيال لإسحاق رابين؛ لأنه وافق على اتفاق أوسلو، وكان هو الذى قال إنه عندما أتى اليهود إلى هذه الأرض، يعنى فلسطين، فإنها لم تكن فارغة. جاءت وزارة بنيامين نتنياهو الأولى ومعها الاستيطان والمذابح، وفى المقابل كانت حماس تدفع جانبًا بمنظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعى والوحيد للشعب الفلسطينى. على الجانبين العربى والإسرائيلى فى ذلك الوقت كان هناك من يرون أنه لا ينبغى لفرصة السلام أن تضيع؛ فجرى تكوين التحالف الدولى للسلام العربى الإسرائيلى. كانت واحدة من أفكار التحالف عقد مؤتمرات فى عواصم الدول التى شاركت فى الحروب، وآن أوان المشاركة فى السلام؛ وكان حضور الرئيس كارتر مهمًا لهذه المناسبة. وبتفويض من الأطراف سافرت أنا ود. رياض المالكى الذى كان فى ذلك الوقت قائدًا لإحدى الجمعيات الأهلية الفلسطينية؛ وفيما بعد صار وزيرًا للخارجية الفلسطينية لفترة طويلة. ذهبنا إلى مركز كارتر فى أتلانتا وجاء إلينا مبتسمًا وكأنما تذكر أن الشعلة التى أشعلها قبل عقدين تقريبًا لا تزال باقية، رغم كل الأخبار السيئة القادمة من الشرق الأوسط. كان طلبنا هو أن يحضر ويلقى كلمة فى المؤتمر المحدد.

قال لنا الرئيس كارتر إنه يود الحضور كثيرًا، ولكنه لا يستطيع ذلك لأسباب سياسية بحتة؛ لأنه لا يجوز لرئيس سابق أن يظهر إلى أضواء سياسية فى عهد رئيس لاحق، هو بيل كلينتون؛ ومع ذلك فإنه على استعداد لتسجيل كلمة فى فيديو يعرض فى المؤتمر. للأسف لم يقدر للمؤتمر الانعقاد بعد ذلك، ولا أذكر ما الذى جرى لتسجيل الكلمة. ولكن هذه المرة للقاء لم تكن الأخيرة، كان هناك لقاء آخر، وهذه المرة فى القاهرة وفى بيت ضيافة رسمية التقيت به مع الدكتور سعد الدين إبراهيم وآخرين يغيبون عن الذاكرة الآن، وكان الحديث عن جهوده الإنسانية الخاصة ببيوت الفقراء التى كان نشطًا بها فى الهند وجنوب إفريقيا وكثرة من العالم النامى استحق عليها جائزة نوبل للسلام؛ رغم أنه كان يفضل الحصول عليها نتيجة جهوده فى الشرق الأوسط. الآن فإن جيمى كارتر يرحل عن العالم بعد أن بلغ سن المائة فى الأول من أكتوبر الماضى باعتباره الأطول عمرًا من كل الرؤساء الأمريكيين؛ وبعد تجربة أذهلتنى وهو قراره قبل عامين بالتوقف عن كل الأدوية، بما فيها السرطان، لكى يقضى وقته مع أولاده وأحفاده وأحفاد الأحفاد أيضًا. الرجل لم يكن سياسيًا فقط، وأول وربما آخر من جاء رئيسًا من جورجيا، وإنما أيضًا كان مزارعًا ونجارًا مفعمًا بالإنسانية والرغبة فى أن يعيش الأمريكيون والعالم فى زمن أفضل.

من يعيش الآن فى الشرق الأوسط يفتقد جيمى كارتر وأنور السادات، القيادات التى قدمت نوعًا جديدًا من البطولة غير المعتادة فى المنطقة الغارقة فى صدامات وجودية لا تعرف الرفق والنظرة إلى مستقبل أفضل، لا تقتل فيه النساء والأطفال، ولا تهدم فيه المدن والحضارة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

السلام وجيمى كارتر السلام وجيمى كارتر



GMT 09:00 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

هل مع الفيروس الجديد سيعود الإغلاق؟

GMT 08:25 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

التغيير في سورية... تغيير التوازن الإقليمي

GMT 08:24 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

هذه الأقدام تقول الكثير من الأشياء

GMT 08:23 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

أحاديث الأكلات والذكريات

GMT 08:23 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

كبير الجلادين

GMT 08:21 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

سوريا... والهستيريا

GMT 08:20 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

جرعة تفاؤل!

GMT 08:18 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

لا يطمئن السوريّين إلّا... وطنيّتهم السوريّة

اللون الأسود سيطر على إطلالات ياسمين صبري في عام 2024

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 08:50 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

إسرائيل تتهم الجيش اللبناني بالتعاون مع حزب الله
  مصر اليوم - إسرائيل تتهم الجيش اللبناني بالتعاون مع حزب الله

GMT 08:31 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف
  مصر اليوم - أدوية حرقة المعدة تزيد من خطر الإصابة بالخرف

GMT 09:32 2025 الأربعاء ,08 كانون الثاني / يناير

بسمة بوسيل تشوّق جمهورها لأغنيتها الجديدة "لأ ثواني"
  مصر اليوم - بسمة بوسيل تشوّق جمهورها لأغنيتها الجديدة لأ ثواني

GMT 09:07 2024 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

الملكة رانيا تربعت على عرش الموضة بذوقها الراقي في 2024

GMT 08:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مبابي يكشف سبب منعه من الاستمرار مع سان جيرمان

GMT 01:15 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

أفضل ألعاب يمكن تحميلها الآن على هاتف الآيفون مجانا

GMT 06:21 2019 السبت ,19 كانون الثاني / يناير

نوبة قلبية تقتل "الحصان وصاحبته" في آن واحد

GMT 22:33 2018 الأربعاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد ممدوح يوجه الشكر للجامعة الألمانية عبر "انستغرام"

GMT 16:44 2018 الإثنين ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

الأمن المركزي يحبط هجومًا انتحاريًا على كمين في "العريش"

GMT 03:36 2018 الجمعة ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

"طرق التجارة في الجزيرة العربية" يضيف 16 قطعة من الإمارات

GMT 01:03 2018 الثلاثاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

طريقة عمل العيش السوري او فاهيتاس بسهولة فى البيت

GMT 08:12 2018 الثلاثاء ,11 أيلول / سبتمبر

ليدي غاغا تُظهر أناقتها خلال العرض الأول لفيلمها

GMT 16:10 2018 السبت ,01 أيلول / سبتمبر

جماهير روما تهاجم إدارة النادي بعد ضربة ميلان
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon