بقلم: عبد المنعم سعيد
سبق ذكر أن ما سُمى الربيع العربى ولد ثلاثة تيارات فكرية وعملية فى العالم العربى: أولها تيار الشباب الذى نزل إلى الشوارع والميادين معلنا أنه لم يعد ممكنا المضى قدما بما هو قائم، ولذا لا بد من تغيير. وثانيها تيار الإسلام السياسى الذى يريد نموذجا يبدأ من الميدان ولا ينتهى إلا بالخلافة. وثالثها تيار إصلاحى يرى أن الدولة والمنطقة تخلفت كثيرا عن العالم وآن أوان اللحاق بما يجرى فى الدنيا من تقدم وحضارة. عمليا فإن التيار الأول لم يكن يعرف ما يريد بعد سقوط الأنظمة القائمة، واختلف وتصارع وانقسم، وانتهى بسلسلة من الحروب الأهلية التى لا تزال قائمة.
التيار الثانى كان الأكثر استعدادا وتنظيما وتمويلا فقاد التيار الأول وأخذه فى اتجاه الدولة الدينية التى بدأت بادعاء ديمقراطى يحسم عن طريق الانتخابات، وينتهى بالهيمنة والسيطرة على الدولة والمجتمع والتحضير ليكون أستاذا للعالم. التيار الثالث أخذ مسارا عمليا واعتمد فى بدايته على أن الدول الملكية كانت أكثر استعدادا وحزما مع ثورة الميادين؛ وعندما استعادت الدول الوطنية وطنيتها مرة أخرى؛ فقام كلاهما بعمليات إصلاح جذرية استندت إلى تجديد الفكر الدينى، وتجديد الهوية الوطنية، ومشروعات البنية الأساسية التى لا تخترق إقليم الدولة فقط وتوحد ما بين ربوعه، وإنما تربط أيضا المجتمع وتزيد من تماسكه. وفى سياساته الخارجية سعى بقوة لتهدئة النزاعات وتحقيق الاستقرار الإقليمى باعتبارها أهدافا قومية ضرورية لاستمرار المسيرة الإصلاحية. حصيلة «الربيع العربى» باتت سلسلة الدول المنقسمة والمتصارعة فى داخلها مثل سوريا واليمن وفلسطين والسودان وليبيا؛ وسلسلة الدول الأخرى التى قامت على الإصلاح فى داخلها وتضم دول الخليج العربى ومصر والأردن والمغرب؛ وفى خارجها سعت فى «إعلان العلا» الصادر عن مجلس التعاون الخليجى فى ٤ يناير ٢٠٢١ إلى التهدئة الإقليمية وفض الخلافات مع قطر وتركيا وإيران مع حل القضية الفلسطينية من خلال اندماج إسرائيلى فى المنطقة مع إقامة دولة فلسطينية.
حرب غزة الخامسة وتوابعها الإقليمية قدمت تحديا كبيرا لدول الإصلاح حيث امتدت إلى الضفة الغربية وسوريا ولبنان والعراق واليمن، وبات مسرحها واقعا بين الخليج العربى والبحر المتوسط والبحر الأحمر والقرن الإفريقى.
دول الإصلاح لم تملك أن تقف ساكنة إزاء الاشتعال الجارى فى المنطقة؛ والثمن الذى يدفعه الأمن الإقليمى نتيجة التمزق فى الدولة الوطنية العربية التى انشق فيها السلاح عن السياسة؛ والسلطة الوطنية عن الميليشيات المسلحة فى العراق التى انشقت فيها قوات «الحشد الشعبى»، وسوريا حيث تجزأت ما بين أربعة أقسام لكل منها ميليشياتها الخاصة، فضلا عن السلطة القائمة فى دمشق. وكان «حزب الله» يمثل «الثلث المعطل» القابض على قرارات الحرب والسلام ومنع انتخاب رئيس للدولة والتصديق على عمل الحكومة. فى اليمن امتلك «الحوثيون» العاصمة وأقاموا فيها دولتهم بينما استمرت الحكومة «الشرعية» فى عدن. فلسطين التى لم تقم فيها الدولة بعدما اغتصبت فيها حماس قطاع غزة منفصلا عن الحكومة الوطنية فى رام الله وخاضت أربع حروب مع إسرائيل حتى وصلت إلى الحرب الخامسة. لم تكن إيران بعيدة عن ذلك كله وهى التى لديها تناقض نووى مع الولايات المتحدة؛ وتشارك الصين وروسيا وكوريا الجنوبية الدعوة لمراجعة النظام الدولى الذى أصبحت قيادته الأمريكية فى يد «دونالد ترامب» الشخصية التى تثير التساؤلات.
مُركب كل ما سبق يتطلب من الدول الإصلاحية أربعة أمور: أولها الاستمرار فى مسيرتها الإصلاحية الداخلية وتعض عليها بالأسنان فلا تهِن ولا تتوقف. وثانيا تحقيق التضامن فى محور للسلام والتنمية والاستقرار من خلال ائتلاف إقليمى يحقق التوازن مع محور «المقاومة والممانعة» الذى عمليا وضع الشعب الفلسطينى فى حالة من الإبادة الجماعية التى تقوم بها إسرائيل وانتقلت الآن إلى لبنان. وثالثا السعى نحو تحقيق الاستقرار الإقليمى من خلال ثلاثة أنواع من الإصلاح: أولها يقع داخل الأرض الفلسطينية وبدايته بعد التقدير للسلطة الوطنية فإنه آن الأوان لتجديدها بطابع تكنوقراطى يشير إلى تغيير كبير وجذرى فى مسار السلطة حتى يكون لديها القدرة على إدارة الوحدة بين الضفة الغربية وغزة وليس بين فتح وحماس. الأمر اللصيق بهذا التجديد هو سحب الشرعية عن جميع القوى المسلحة الفلسطينية الواقعة خارج الإطار الشرعى المعترف به فى العالم. وثانيها يقع الإصلاح داخل إسرائيل التى بات مسيطرا عليها حكومة هى الأكثر تشددا وتعصبا وفاشية فى التاريخ الإسرائيلى؛ من خلال خلخلة الداخل الإسرائيلى واستعادة التوازن داخله بين القوى السياسية مرة أخرى. ورغم أن الأمر يحتاج الكثير من التفاصيل فإن جوهره هو العرض الجاد لحل الدولتين الذى تؤيده الدول العربية والإسلامية والأوروبية وقدر غير قليل من الولايات المتحدة وإسرائيل.
ثالثها هو إصلاح الشرق الأوسط ذاته فى علاقاته بين الدول العربية ودول الجوار الإقليمى مع إيران وتركيا وإسرائيل. حجر الزاوية فى الإصلاح هو مدى الاعتراف بشرعية الدول والحركات الإقليمية من منظور الدولة الوطنية التى تحتوى على «مواطنين» متساوين فى الحقوق والواجبات؛ وتمتلك فيها السلطة الوطنية الاحتكار الشرعى للقوة المسلحة. الإعلان الصريح عن عدم شرعية جميع الحركات المسلحة فى العراق واليمن وسوريا ولبنان وفلسطين يمنح مبادرة الإصلاح الإقليمية شرعية المضىّ فى تسوية المسائل العالقة بين الدول العربية والدول الإقليمية وفى المقدمة منها القضية الفلسطينية. مثل ذلك كله يحتاج استراتيجية متكاملة من دول الائتلاف الإصلاحى العربى الذى لا تشغله وسوسات التضخيم من «التناقضات» الفرعية أو التنافس على الزعامة أو اجتذاب «لقطة» الدور الإقليمى. كل ذلك يمكن تجاوزه عند الإدراك لجلال المهمة الخاصة بتحقيق سلام إقليمى يعزز ويدعم كافة عمليات الإصلاح الداخلى الذى يقترب الآن من نقطة نهاية المرحلة الأولى التى كانت مجسدة فى العديد من «رؤى ٢٠٣٠». وبصراحة فإن المحنة الراهنة القابلة للانفلات إلى حرب إقليمية، ولدى عدد من المحللين والساسة الحرب العالمية؛ هى قابلة للعكس تماما حينما تصبح منحة للتغيير والتقدم والدخول فى العالم المعاصر.
الفكرة الأساسية فى هذا المقال هى أن هناك علاقة ارتباطية بين السياسة الداخلية والخارجية للدول أو ما يقال عنه فى العلوم السياسية «Linkage Politics» حيث يستحيل الإصلاح فى الداخل وفى أطر تقدمية؛ بينما فى الخارج والبيئة الإقليمية ما يدعو إلى الكثير من البدائية والعنف والسيطرة الدينية القائمة على التعصب ورفض الآخر. عمليات الإصلاح الجارية شكلت تصحيحا لمسار السياسة داخل دول عربية طالما ضللتها الأيديولوجية والمسارات المطلقة وآن له أن يمتد إلى خارجها فى لحظة انهيارات فى دول عربية كانت تاريخيا لها الكثير مما تقدمه مدنيا وحضاريا للمنطقة والعالم. إسرائيل تمثل حلقة معقدة فى هذا المضمار فهى دولة متقدمة ومسلحة حتى الأسنان، مبتلعة للحقوق الفلسطينية منذ نشأتها؛ دمجها فى المنطقة إلى جانب استعادة دور تاريخى لليهود هو الذى يمنحهم الأمان الحقيقى، بينما يستعر فى الغرب والعالم دخان «معاداة السامية».