بقلم: عبد المنعم سعيد
استمعت باهتمام لحديث دولة رئيس الوزراء د. مصطفى مدبولى مع الإعلام الذى أكد فيه على أهمية القطاع الخاص والاستثمار من المستثمرين المصريين والأجانب. ومع تقديرى الكبير لدولة رئيس الوزراء وجهوده خلال السنوات الماضية فإن ما ذكره فى حديثه كان دائما واردا وأحيانا ملحا خلال نفس الفترة الزمنية. والحقيقة أنه لم يكف أحد فى الدولة، من قيادتها الرئاسية إلى مجلس وزرائها إلى كافة المسؤولين،عن التأكيد على الأهمية القصوى لمشاركة القطاع الخاص. وللحق فإن ذلك كان أيضا واردا خلال العصر السابق والمسؤولين فيه منذ تولى الرئيس السادات للرئاسة وطرحه لمفهوم «الانفتاح الاقتصادى» الذى كان زمنيا مواكبا لذات الصيحة فى سنغافورة «لى كوان يو» والصين «دينج شياو بينج» وكوريا الجنوبية «بارك تشونج هى». وللأسف فإن الصيحة أجهضت فى مصر بما جاء من ثورة يناير الأولى فى ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٧؛ ثم اغتيال الرئيس السادات. لم تضع الفرصة التاريخية فقط فى ذلك الوقت ولكن ظلت تأثيراتها التاريخية قائمة؛ ولم يكن ذلك نهاية للقطاع الخاص فى مصر، وإنما أخذ به إلى اتجاهات سلبية مثل التوسع فى الاقتصاد غير الرسمى الذى يقع خارج السوق المعلومة، والذى يبقى لأزمنة كبيرة متخلفا وعاجزا عن التطور. وأحيانا أخرى انحرف القطاع عندما ولدت «شركات توظيف الأموال» فى رحم اقتصاد عشوائى وتجاهل تام للنظام المصرى والبنوك. جرى ذلك فى الثمانينيات من القرن الماضى عندما طلت على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية نوبة فنية من الفنون والآداب التى وضعت على القطاع الخاص كل أشكال الذنوب والمعاصى والتى ربطت الغنى بالفساد.
المدهش أن ذلك جرى فى الوقت الذى بدأ فيه التطور الاقتصادى فى العالم يسير فى اتجاه «اقتصاد السوق» الذى يفتح الأبواب والنوافذ لعمليات الاستثمار المتسارعة بسرعة الثورة المعلوماتية والمعرفية. وبالتواكب مع ذلك فإن القصة الآسيوية فى التنمية والتى كانت بدايتها مع اليابان، ومع سبعينيات القرن الماضى امتدت التجربة إلى الصين وشرق وجنوب شرق آسيا، ولم يستثن فيها لا الشيوعى، ولا الاشتراكى، ولا الليبرالى. ومن عجب أن كثيرا من مثقفينا انبهر بشدة بالأولوية التى أعطيت للتعليم فى هذه البلدان.
.. كما لو كان قرارا سياسيا فى إعطاء الأولوية الأولى دونما نظرة لأصوله الاقتصادية التى أعطت أهمية مركزية للتصدير، وهو ما يعنى قبول المنافسة العالمية، والتى منها شددت الطلب على المعرفة بشكل عام وفى القلب منها التعليم بالطبع. الاتجاه المعاكس جرى فى مصر ووقع العبء أولا على الدولة لكى تتحمل أثقال الزيادة السكانية والانتشار العشوائى السكانى بأشكال سياسات الدعم والغفلة وإلقاء اللوم على كثرة العيال. وثانيا ومع شح الموارد لم يكن هناك مفر من الاقتراض الداخلى والخارجى الذى شكل بدوره عبئا كبيرا على قدرة الدولة على النمو والتقدم.
جرى كل ذلك بتسليم كبير على أنه من طبيعة الأشياء، وعندما جاءت اليقظة فى العقد الأول من القرن الحالى فإن محاولة الخروج من اقتصاد الدولة واجهتها عواصف كبيرة كانت خاتمتها الإرهاب ومن بعدها ثلاث سنوات من الثورة. العقد الذى جاء بعد ذلك كان فيه الكثير من التصميم على زيادة المعمور المصرى والإصلاح الواسع للبنية الأساسية المادية والبشرية وهذه خلقت طلبا واسعا على التعليم والمعرفة ومعهما رفع العبء الهائل عن الدولة بدعوة الاستثمار الداخلى والخارجى. لم تمر مناسبة إلا وبات الحديث عن دخول القطاع الخاص إلى الساحة الاقتصادية بكثافة جزءا هاما من الحوار الوطنى؛ ومع ذلك فإن أحدا لم يلاحظ أن تكرار الحديث لا يكفى لتحقيق الهدف. حديث النخبة السياسية والتنفيذية عن الموضوع لم يعن أى قدر من المشاركة فى بناء اقتصاد السوق كما تعرفه الدول الآسيوية؛ ولا إدارة هذه السوق فى مصر. النخبة التنفيذية فى مصر ظلت تأخذ من آبار الجهاز الإدارى للدولة ذاته والذى عاش دوما على فلسفات القطاع العام؛ أو من البئر القضائية لمراعاة القوانين والأعراف وليس التغيير والتطوير لما كان؛ أو من البئر الأكاديمية نتيجة تصور أن من يدرسون ويقيمون المجتمع والدولة لا بد لديهم الكثير لحل مشاكلها؛ ومؤخرا بدأ الاعتماد على العاملين المصريين فى المؤسسات الاقتصادية الدولية وهؤلاء باستمرار خاضعون للاشتباه بأنهم يطبقون «الروشتة» الدولية لمعالجة الأمراض القومية وليس الوسائل المحلية حيث الأدعية والأذكار لطلب البركة. الحرب ضد الإرهاب، والحاجة الدائمة إلى الانضباط، والرغبة فى سرعة الإنجاز دفعت فى اتجاه الاستعانة بالمؤسسات الوطنية للقوات المسلحة والشرطة، حيث نجحت فى مشروعات عملاقة، ولكنها؛ بعد ذلك واجهت معضلات المجتمع.
أحيانا كان الحل هو وثيقة مثل وثيقة تخارج الدولة، وتقسيم العمل بعدها بين الدولة وما يتبقى منها مع القطاع الخاص وتجاهل معرفة التنمية كعملية تنافسية فى أسواق حرة تعتمد على الأفراد والشركات والمعرفة والتسابق فى الداخل والخارج. ما جرى حتى الآن وفى إطار المقارنة مع دول التجربة الآسيوية (الأوروبية والغربية عامة بعيدة عنا بعد السماء السابعة) ما زالت مصر رغم التقدم فى مجالات كثيرة تسبح فى مراتب أقل بكثير مما تستحق. مثل ذلك فرض نوعا من الضمور النسبى على القطاع الخاص المصرى وهو ما سجله رؤوف غبور فى مذكراته التى أكد فيها على أن عدد الشركات الحقيقية من حيث استكمال أدوات الرأسمالية الحديثة فى العالم لا يتعدى عشر شركات. ومن الثابت أن كثيرا من الشركات المصرية الكبيرة- والحجم لا يعنى النضج- غير مسجلة فى البورصة المصرية حيث يجرى الاختبار اليومى على أسعار الأسهم للدلالة على نجاح الشركة من عدمه.
ما تحتاجه مصر الآن، ولعل عليه توافق كبير، هو ضرورة النمو بمعدلات نمو متسارعة لا تقل عن ٨٪ سنويا؛ وذلك يحتاج إلى تعبئة كاملة للقدرات المصرية التى تحتوى على القطاع الخاص. هذه التعبئة لا تحدث والنظام الإدارى للدولة على حاله ولا يطبق فيه ما قامت به أجهزة الدولة بالفعل من وضع قانون للإصلاح واجب التطبيق والنفاذ. ولن يحدث هذا المعدل طالما ظل القطاع الخاص بعيدا عن المشاركة فى القرار الاقتصادى، والإدارى فى المجالات التى يتفوق فيها بالفعل، والسياسى من خلال التشاور المستمر مع المنظمات والهيئات مثل اتحاد الصناعات والغرف التجارية، لكى نعرف ما يجرى فى العالم وما يريده القطاع الخاص لكى يكون على نفس المستوى من الإنتاجية والمنافسة فى الأسواق العالمية. ولعلنا نحتاج كثيرا من السفر شرقا لكى نعرف كيف كانت التجربة فى الصين وكوريا الجنوبية وفيتنام ومؤخرا إندونيسيا كثيفة السكان والممتدة جغرافيا فى ١٧ ألف جزيرة. وربما نحتاج بشدة إلى الحديث للقطاع الخاص أو رجال الأعمال، فالمدهش بشدة أن الحديث مع رجال الأعمال المصريين لا يتم إلا من خلال «بود كاست» الجامعة الأمريكية، أو إذاعة لندن الناطقة باللغة العربية.