توقيت القاهرة المحلي 20:45:07 آخر تحديث
  مصر اليوم -

التراجيديا السورية!

  مصر اليوم -

التراجيديا السورية

بقلم: عبد المنعم سعيد

عالِم العلاقات الدولية المتميز د. جمال عبد الجواد نشر مقالاً في «الأهرام» الغراء، تحت عنوان «دورة كاملة للتاريخ في سوريا»، عرض فيه للنزعة السورية إلى التفكك لقبائل سياسية؛ وكأن الانقسام الطائفي والمذهبي ليس كافياً. هذه الحالة جديدة، ولكنها كانت قائمة منذ منتصف الخمسينات، عندما وجد ضباط في الجيش السوري أن حلّ القضية لا يكون بتحقيق التماسك أو إقامة دولة وطنية حقيقية، وإنما بالسعي نحو الوحدة مع مصر. الآن بعد مسيرة عقود وفشل وحدة الجمهورية العربية المتحدة المغدورة، تعود سوريا بعد «الربيع العربي» إلى أكثر من عقد من التفكك والانهيار والاحتلال الخارجي، سواء أكان من قوى معادية للنظام السياسي البعثي مثل الولايات المتحدة وتركيا وحزمة كبيرة من الأحزاب والجماعات الجهادية الإرهابية الشيعية والسنية، أم من قوى مساندة له مثل إيران وتوابعها من «حزب الله» و«الحشد الشعبي». الدورة كاملة من التاريخ البائس، ليس في الدولة السورية فقط، وإنما في العديد من الدول العربية الأخرى أيضاً، التي فشلت تجربتها الوطنية في إقامة دولة متماسكة بالهوية والمصالح المشتركة جيوسياسية واقتصادية وثقافية أيضاً. سوريا ليست وحدها في هذه الدورات التعيسة، وإنما جرى مثيل لها في السودان واليمن حتى فلسطين، التي لم تقم بها الدولة بعدما انقسمت بانقلاب «حماس» في قطاع غزة، لكي تنفصل عن الضفة الغربية. ليبيا والعراق لا تزالان تحت الاختبار، خاصة أن الثروة النفطية قدّمت لهما مصالح يصعب الاستغناء عنها من قبل قطاعات مذهبية أو «جهوية».

الدفاع الفكري الذائع لدى جمهرة المثقفين والمفكرين العرب هو أن التقسيم والتفكيك كانت أمراً محتوماً بسبب الاستعمار، واتفاق سايكس بيكو، الذي رغم مرور أكثر من قرن عليه، لم يكفِه الزمن لكي ينتهي تأثيره. العودة للاستعمار ولإسرائيل كان جزء منه على الأقل إنكاراً للمسؤولية، وتخلصاً من فشل بناء متماسك للدولة يكون كافياً لازدهارها ووحدتها السياسية وترابطها الوطني. وكان الحل الذائع بعد ذلك هو القفز إلى المجهول باتساع المساحة السياسية التي تقيم دولة عربية واحدة، وأحياناً خلافة إسلامية يقودها العرب هذه المرة، بعد أن استغنى عنها الأتراك. كانت الغشاوة على العيون كثيفة في رؤية الدولة العربية الوطنية، وقد تبلورت في دول ناجحة باقية وغير منقسمة، ولا يقتل أهلها الأشقاء في الوطن، لا بجماعات جهادية، ولا بقوات «الدعم السريع». المملكة العربية السعودية تكونت من خلال عملية توحيد تاريخية ربطت الشرق والغرب، وهي الآن تعيش مرحلة ازدهار جديدة. الإمارات العربية المتحدة أقامت دولة فيدرالية عربية بين 7 إمارات، تجمعوا في دولة موحدة تتنافس أقاليمها على التقدم. الإمارات الأخرى في الخليج نزعت إلى تجربة عربية ناجحة في دعم الروابط من خلال مجلس التعاون، والتماسك وقت غزو العراق للكويت حيث لا توجد وحدة قسرية في القاموس، وتدخلت لإنقاذ البحرين أثناء «الربيع العربي». مصر الموحدة تاريخياً منذ آلاف السنين عاشت مع السودان تحت تاج واحد لعقود؛ ولكن، ولحسن حظها، أن الأشقاء في السودان اختاروا طريقاً آخر للاستقلال، ومعه سلاسل من الحروب الأهلية قسّمتها إلى دولتين بين شمال وجنوب، ولا أحد يعلم، لا المكون العسكري، ولا المكون المدني، حسب التقسيمات السودانية، ما الذي سوف تسفر عنه الحرب الأهلية. تونس والجزائر والمغرب في المغرب العربي نجحت في تكوين هوية وطنية كافية لارتباط العرب والأمازيغ، جاء من الكفاح ضد الاستعمار، والعمل المدني الخلاق، سواء تحت التاج الملكي أو الرابطة الجمهورية التي جاءت مع الاستقلال.

التراجيديا السورية ليست جديدة، لا على سوريا، ولا على دول عربية أخرى تعيش نفس الحالة المحزنة. الجوار الجغرافي والتجربة الحضارية التاريخية في الماضي، والتجربة الحالية منذ الاستقلال حتى الآن، تخلق دمعاً في العيون وشقاً في الصدور على شعوب شقيقة. ولكن الحالة تقتضي قدراً هائلاً من الصراحة، لأن التراجيديات العربية لها سمات التصدير لدول عربية أخرى، ومقدمات لخلل استراتيجي هائل يأتي من الخارج من خلال دول إقليمية قريبة ترى في الدولة العربية المفككة فرصاً تفرغ فيها عقداً تاريخية أو سعياً للخلاص من التفكك الداخلي بمغامرات خارجية، أو يأتي الخلل الاستراتيجي من حركات وآيديولوجيات تستخدم الدين مرة والقومية العربية مرة أخرى، ليس لتحقيق الوحدة، وإنما لتعميق التفكك.

هناك دائماً قميص عثمان للتبرير والتبكيت، وهو الاستعمار في الماضي والصهيونية في الحاضر، دون اعتبار ولا خجل من تحمل المسؤولية عن مصدر النزف الدائم نتيجة غياب الدولة الوطنية، والعجز عن تنمية الهوية المشتركة، والفشل في تنمية المصالح المشتركة استراتيجية واقتصادية.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

التراجيديا السورية التراجيديا السورية



GMT 06:02 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 05:58 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 05:54 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 05:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 05:47 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 05:43 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 05:39 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 05:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

عالية ممدوح

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 00:04 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

«صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا
  مصر اليوم - «صاحبك راجل» يعيد درة للسينما بعد غياب 13 عامًا

GMT 10:46 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الأربعاء 18 ديسمبر / كانون الأول 2024

GMT 09:03 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 10:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

GMT 19:37 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مروة صبري توجّه رسالة لشيرين عبد الوهاب بعد ابتزاز ابنتها

GMT 23:53 2013 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

إكسسوارات تضفي أناقة وتميُّزًا على مظهرك

GMT 11:54 2024 الإثنين ,06 أيار / مايو

أحذية لا غنى عنها في موسم هذا الصيف

GMT 04:51 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

السجن 50 عاما لامرأة أجبرت 3 أطفال على العيش مع جثة في أميركا

GMT 13:32 2016 الجمعة ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

أرجو الإطمئنان بأن الآتي أفضل

GMT 13:13 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

اتفاقية بين مصر وموانئ دبي العالمية لتطوير منطقة حرة عامة

GMT 19:17 2021 الأربعاء ,16 حزيران / يونيو

التشكيل الرسمي لمباراة إنبي والبنك الأهلي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon