بقلم - عبد المنعم سعيد
وصلت موسكو لأول وآخر مرة فى ٢٤ أكتوبر١٩٩١ قادما من القاهرة ومن قبلها الدوحة فى قطر، ولم يكن لدى أى علم أننى سوف أكون شاهدا على سقوط الاتحاد السوفيتى، القوة العظمى التى تابعت يوما معجزاتها الفضائية وتمنيت أن تصل إلى القمر قبل الولايات المتحدة. كان قد مضى أكثر من عام على الغزو العراقى للكويت؛ وأكثر من نصف عام على تحريرها.
كان الغزو سببا فى دعوتى للعمل مستشارا سياسيا بالديوان الأميرى بدولة قطر بناء على توصية من الرئيس مبارك، حينما طلب الشيخ خليفة بن حمد آل ثانى أمير الدولة أن تمده مصر بمستشارين سياسى وعسكرى، وكان الأول من نصيبى أما الثانى فقد كان اللواء فؤاد هويدى الذى عمل نائبا لرئيس المخابرات الحربية إبان حرب أكتوبر، وشارك فى كل المفاوضات العسكرية التى جاءت بعدها من أول الكيلو ١٠١ وحتى اتفاقيات الفصل بين القوات على الجبهة المصرية.
قصتى للعمل لثلاث سنوات فى الدولة الشقيقة سوف يكون لها زمن ومكان آخر فى تفاصيلها المثيرة، ولكن سبب المغادرة إلى موسكو كان قيام الاتحاد السوفيتى- الذى كان لا يزال قائما- بالتعاون مع الولايات المتحدة بالاتفاق على عقد مؤتمر مدريد للسلام فى الشرق الأوسط. وكما هى العادة فى مثل هذه الأمور، فإن الولايات المتحدة تدفع فى اتجاه عقد العديد من المؤتمرات للخبراء والباحثين فى الموضوع لاستطلاع ما يمكن من أفكار ورؤى تكفل نجاح المؤتمر.
وكما هو حادث الآن فإن واشنطن كانت تعتقد أن حرب تحرير الكويت التى شنها صدام حسين تحت راية تحرير القدس يمكن أن يكمن فيها فرصة حل الصراع العربى الإسرائيلى فى جميع جوانبه. كان الخوض فى الحرب قد جرى بموافقة سوفيتية، وما بعدها من دبلوماسية جرى بتنسيق بين واشنطن وموسكو والدول العربية وإسرائيل بالطبع. المعضلة كانت تمثيل الفلسطينيين، وهذه جرى حلها بوفد مشترك مع الأردن على أن يتصرفا دائما كوفدين مستقلين.
الحالة فى موسكو كانت تدعو إلى الشفقة، ورغم أن البرودة فى أواخر أيام أكتوبر فإن فتيات الليل تكالبن على الفندق فى جميع جوانبه الزجاجية شبه عاريات، الفندق فى الداخل كان محكوما بشكل شبه عسكرى فى جميع الأدوار. الندوة نفسها جرى فيها التعامل بدرجة عالية من الفقر رغم أن تمويلها كان أمريكيا، الوجبات كانت كلها واحدة تقريبا؛ شريحة من السجق فى رقة ورق السجائر مع كم محدود من البطاطس، باختصار كنا على أبواب المجاعة الأكاديمية.
ولم يكن هناك من منقذ إلا سفيرنا العظيم أحمد ماهر وزوجته العظيمة لكى يمنحا للمجموعة المصرية شنطة بلاستيكية فيها كم هائل من الأجبان وعيش «الباجيت» الفرنسى، مع قدر عظيم من الفواكه. قيل لنا إن السيد وليد جنبلاط السياسى اللبنانى المعروف لديه مطعم فى مكان بموسكو، ذهبنا إلى هناك حيث كان هناك قدر كبير من البروتين، ولكن غير جودة الطعام لم يكن هناك إلا ما يبعث على التقزز.
ذهبت إلى الميدان الأحمر، فلم يكن ممكنا الذهاب إلى موسكو دون مشاهدة تمثال لينين ومبنى الكرملين، ولم تأخذ وقتا طويلا رحلة التسوق، فقد كانت جميع المحلات فارغة. كان الاتحاد السوفيتى ينهار، وهو ما حدث بالفعل بعد ستة أسابيع تقريبا، وكان الانهيار مهينا. داخل الندوة نفسها جرت المناقشات عميقة، حيث بات معروفا أن مؤتمر مدريد سوف ينعقد تحت القيادة المشتركة للدولتين الأعظم، وتعطى الفرصة لجميع قادة الوفود بما فيها الفلسطينيون للحديث.
وبعدها فإن المؤتمر سوف ينقسم إلى قسمين: المفاوضات الثنائية بين إسرائيل وكل طرف عربى احتلت أراضيه؛ والمفاوضات متعددة الأطراف التى تتعلق بالبيئة التفاوضية للقضايا الكبرى التى تؤثر إيجابا وسلبا فى المفاوضات الثنائية؛ مثل المياه واللاجئين والبيئة والأمن الإقليمى والحد من التسلح.
الندوة نفسها انقسمت فى هذا الاتجاه الذى بات معروفا باسم «المسار الثانى» للمفاوضات، أى تلك التى تولد أفكارا للمفاوضين تفيد فى حل المشكلات المعقدة. وكان نصيبى من ذلك كله الحديث فى الموضوع الأخير حيث كان لى عدد من الدراسات عن السلاح النووى الإسرائيلى وكيفية مواجهته، واحدة منها نشرت فى دورية الجامعة العربية «شؤون عربية».
كان مشهدا مثيرا أن كثيرا من المشاركين فى الندوة جرى استدعاؤهم إلى بلادهم للذهاب إلى مدريد؛ وقام عدد منهم بالطيران مباشرة من موسكو إلى مدريد. وبالنسبة لى ومن تبقوا شهدنا توقف عناية الرفاق السوفييت، ولم يكن الخروج من مطار موسكو مثل الدخول إليه، كان الأمر مقدمة لرحلة صعبة وبعض حلقاتها مرعبة!.