بقلم - عبد المنعم سعيد
كثيرا ما يستهجن تعبير «المساومة» فى المفاوضات بين أطراف متحاربة باعتباره مفهوما نفعيا أقل شرفا من الأهداف السامية التى يجرى القتال بشأنها، والتى فيها من السمو ما يجعل الإنسان على استعداد للتضحية بحياته. ولكن المفهوم تسلل إلى علم السياسة من خلال الاستعارة من علم الاقتصاد مع انتشار وتعميق العولمة التى وجدت من المساومة Bargaining أداة نافعة لتوسيع «الكعكة» فتسهل قسمتها. أسوأ ما يحدث للمتحاربين أن تكون الحرب بينهما معادلة صفرية إذا كسب فيها طرف يخسر الطرف الآخر؛ وتكون أكثر سوءا عندما تكون الأهداف مطلقة مثل الشرف والكرامة يصعب اقتسامها.
ما يمكن اقتسامه يجعل كل طرف منتصرا لأنه حصل على بعض من الكعكة؛ ولذلك كان التقسيم إحدى أدوات حل صراعات كبرى فى الهند التى انتهت إلى دولة الهند والأخرى باكستان؛ وفيتنام جرت قسمتها بين الجنوب والشمال، وكذلك كان الحال فى كوريا التى لا تزال مقسمة. ولكن العكس تماما يحدث إذا ما كانت الشكوك قائمة فى عدالة القسمة؛ وذلك حادث فى كشمير الهندية الباكستانية، وقامت حرب فيتنام للتوحيد؛ أما كوريا فتنتظر نتائج تحول كوريا الشمالية إلى دولة نووية.
«المساومة» عادة ما تبدأ قبل المفاوضات حول بدئها من عدمه؛ وإذا ما بدأت فإن جدول أعمالها يجرى الخلاف عليه من اللحظة الأولى طالما أن أولويات كل طرف هى تعريف بسبب الصراع الجوهري. فى حرب غزة الخامسة بدأت الحرب بالنسبة لإسرائيل منذ ٧ أكتوبر الماضي، وبالنسبة للعرب والفلسطينيين منذ عام ١٩٤٨؛ لذلك فإنه بالنسبة للأطراف الثالثة أو الوسطاء فإن المساومة تبدأ من الوضع الراهن، وتصب فى المستقبل.
المعضلة فى مثل هذه الحالة أن «الوضع الراهن» يعكس توازن القوى القائم؛ والمستقبل بالنسبة للأقوى يجعله يتخوف من خسران ما كسبه الآن، وللأضعف فإنه غامض ومنذر والأفضل دائما انتظار تصحيح الموازين. فى الحرب العالمية الثانية وحدها لم تكن هناك مساومة لأن ألمانيا وحلفاءها استسلموا دون قيد أو شرط.