بقلم - عبد المنعم سعيد
خلال السنوات الماضية كلما أصيبت مصر بضائقة فإن نوعا من الهجمات ينهال على «العاصمة الإدارية الجديدة» وعما إذا كانت ضرورية، وهل يتوافق وجودها مع «فقه الأولويات» أو أن هناك أولويات أخرى نادرا ما يجرى تحديدها. هناك زاوية مختلفة يجرى استخدامها وهى أنه حتى ولو كانت هناك ضرورة للعاصمة، فلماذا كل هذا القدر من الفخامة؟. والحقيقة هى أننى لم أكن من المتحمسين للعاصمة «الجديدة» التى صارت «الإدارية» عندما تردد الحديث عنها قبل عشر سنوات لعدد من الأسباب عددتها آنذاك، أهمها الخوف من أن نفقد «القاهرة» العاصمة القديمة، ولا نكسب عاصمة جديدة كما فعلنا من قبل مع مدينة السادات. كان الخوف بل الذعر وقتها أن المولود الجديد سوف يحصل على الاهتمام الكامل من الدولة، وهو ما يعنى التطوير والاستثمار، بينما يتدهور حال «العاصمة التراثية» لمصر التى ارتبطت بها أجيال من المصريين. ولكن الأنباء كلها كانت تشير إلى أن العمل فى المدينة يجرى على قدم وساق، وبات هناك تصور أقرب إلى الواقعية يقوم على أن تكون «الجديدة» أشبه بجناح إدارى ومالى لتلك «القديمة»، مع إحياء هذه الأخيرة ببث الحياة فى كل عواصمها التاريخية من الفرعونية إلى الحديثة عبر الإسلامية والفاطمية والأيوبية والخديوية. كان هناك اعتقاد لدىّ أن هناك الكثير الذى يمكن أن تبوح به القاهرة لنا وللعالم من ثقافة وثروة إذا ما وجدت العزيمة لبعثها.
نشرت كل ذلك فى مقالات بصحيفتى المصرى اليوم والأهرام، وإذا بالمهندس القدير إبراهيم محلب- رئيس الوزراء وقتها- يتصل بى للانضمام إلى مجموعة عمل مهمتها الأساسية هى بعث «القاهرة التراثية». وبالفعل بدأت المجموعة عملها مستندة إلى خبراء جاءوا من كل حدب وصوب، وخرج من قبعاتهم كل ما يتعلق بالقاهرة التاريخية من خرائط وصور، وعلى مدى عام من مشاركتى بدت القاهرة مدينة من أعظم مدن العالم، ولكنها واقعة تحت الكثير من الركام والعشوائية. كان منهج رئيس الوزراء يقوم على تقديم تجارب ناجحة أولا، ثم بعد ذلك تبدأ الانطلاقة الكبرى. وكانت نقطة البداية هى منطقة «القاهرة الخديوية» فى قلب العاصمة، وحتى داخلها كانت هناك ضرورة لكى نبدأ بشارع الألفى ثم شارع الشريفين. ولكن تغيير الحكومة وتولى د. شريف إسماعيل الوزارة أدى إلى إعادة تشكيل لجنة «القاهرة التراثية» ولم تشملنى، ولكن النتيجة كانت أكثر فاعلية وأعمق تأثيرا، حيث وضعت اللجنة استراتيجية شاملة لتطوير القاهرة بكافة أحيائها وهو التطور الذى امتزج مع تطوير جذرى للبنية الأساسية للمدينة، وتطويق العشوائيات تمهيدا لتطويرها أو إزالتها. هذه الوجه رفع الكثير من المخاوف من العاصمة الجديدة، وعلى العكس تطور قبولى بها إلى الحماس عندما ترددت على المدينة، وخاصة مدينة الفنون بها.
ولد ذلك سببا آخر لا يقل أهمية للاقتناع بأهمية العاصمة الجديدة، وهو أن «الجديدة» هى نتيجة منطقية للتمدد الجارى من ربع قرن تقريبا فى اتجاه الشرق من القاهرة بحيث يتكامل مع مشروعات قناة السويس ومحورها التنموى، فتغطى صناعيا وسكانيا ذلك المثلث الذى يوجد فى رأسه مدينة بورسعيد عند نهاية قناة السويس، ومدينة دمياط حيث يوجد نهاية فرع النيل، وفى قاعدته القاهرة والسويس ومنطقة العين السخنة وما يربطها من الصعود المتنامى للقاهرة الجديدة والرحاب ومدينتى التى كانت على مرمى حجر من المدينة الموعودة. خلاصة الفكرة التى بدت ساعتها هى أن تكون المدينة مناسبة للمستقبل والقرن الواحد والعشرين الذى تغيرت فيه طبيعة المدن بسبب التقدم التكنولوجى. العاصمة الجديدة والإدارية والتى اقترحت تسميتها «طيبة» بعثا لعاصمة مصر العظيمة خلال الفترة الفرعونية لا يمكنها بعد عقود من الآن أن تقوم على تكنولوجيا وممارسات انتهت منذ وقت طويل. الفكرة للعاصمة الجديدة والإدارية والتى تستعيد مجد طيبة القديمة هى أن تكون مجهزة لتكنولوجيا المدن فى القرن الواحد والعشرين، سواء كان ذلك يخص القطارات السريعة أو السيارات الكهربائية أو كل التطبيقات القادمة من تكنولوجيات الثورات الصناعية الثالثة والرابعة.
الخلاصة أن العاصمة الجديدة لا بد أن تخضع عند الحكم لمعايير تختلف عن المعايير الذائعة فى مصر، وإنما تكون أقرب لما قدمه الفراعنة القدامى لكيف يكون المعمار مواكبا للخلود. إذا كان بوسع المصرى القديم أن يصل خياله إلى الأهرامات ومعابد كثيرة مثل «الكرنك» و«أبو سمبل» فلماذا لا يسعى المصرى المعاصر إلى عمران يتصف بالشموخ البادى فى المسجد الكبير للمركز الثقافى الإسلامى والكاتدرائية والحكومة بوزاراتها وهيئاتها المختلفة؟. فى يوم ليس ببعيد سوف تأتى أجيال مصرية جديدة وسوف يكون لها وجهات نظر حكيمة.