بقلم - عبد المنعم سعيد
شاءت الأقدار أن أكون فى الولايات المتحدة اعتبارًا من عام ٢٠١٤ حتى ٢٠١٦ بصورة شبه دائمة، ومن بعدها أصبحت صورة متكررة حتى جاءت «الجائحة» وبات السفر لها مرة واحدة فى العام. والحقيقة هى أنه لم تكن هناك حاجة أكاديمية للتواجد المستمر فى الولايات المتحدة حتى يمكن الكتابة عن أمر مهم فيها، فقد كان هذا من صميم عملى الأكاديمى والصحفى منذ كتابى الأول بالمشاركة مع الأستاذ الدكتور مصطفى علوى عن «العلاقات المصرية- الأمريكية» عام ١٩٧٥، الذى صدر عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية. من وقتها باتت متابعة الانتخابات الرئاسية جزءًا مهمًا من فهم الولايات المتحدة عبر العقود الأربعة التالية لتتبع التيارات والاتجاهات المستقرة وتلك المتقلبة.
هذه المرة الخاصة بانتخاب الرئيس الخامس والأربعين كانت فريدة من نوعها بالمقارنة مع الانتخابات السابقة، حيث المقارنة تشهد أولًا أن الحملة الانتخابية ربما كانت الأكثر رداءة أخلاقيًا وسياسيًا، وثانيًا أن دونالد ترامب- رجل الأعمال البليونير الذى صار سياسيًا- بات هو عنوان المرحلة. كان ذلك خارجًا عن تقاليد التحليل السائدة التى تركز على المبادئ الأساسية للدولة الأمريكية، ودور المؤسسات المختلفة فى نقل السلطة، لكى تأخذ هذه التقاليد إلى المستوى الفردى الذى يركز على شخصية الرجل الذى سوف يصير رئيسًا للولايات المتحدة. وبالتأكيد فإن الرابط بين أولًا وثانيًا يشهد على درجة كبيرة من التدهور الأخلاقى والسياسى لدى النخبة السياسية الأمريكية، والأخطر شهادة أن أمراض الديمقراطية بدأت تتسلل إلى الولايات المتحدة التى هى من الأهمية إلى الدرجة التى تعرض المثال الديمقراطى، والقيادة الاستراتيجية للعالم، لخطر بالغ.
هذه المخاطر سجلتها فى مقال سابق وهى أن المرض الأول للديمقراطية، والذى حذر منه فلاسفة الفكر السياسى أن النظام الديمقراطى يمكنه أن يقود إلى نوع من «الشعبوية» عندما تظهر قيادات «كاريزمية» تستحوذ على عقول الجماهير وأصواتها، أو ما يكفى منها للفوز فى الانتخابات العامة، ومن ثم تعتبر نفسها فوق الدولة والمؤسسات والقوانين وحتى الجماهير نفسها فيما بعد. أما المرض الثانى، وربما كان المرحلة الثانية من نفس المرض، أن الزعيم تزداد زعامته كلما تمكن من غرائز جمهوره من خلال إثارة أحط الرغبات البدائية المرتبطة بالتمييز العنصرى. المرض الثالث يأتى منطقيًا بعد الشعبوية والتمييز العنصرى إلى خلق شعور بالعزلة، والمؤامرة الكونية على شعب كان «عظيمًا» ويستحق أن يكون عظيمًا مرة أخرى باليد السحرية لشخصية مثل دونالد ترامب. كان خطاب البليونير الأمريكى يقوم أساسًا على أن كل حلفاء أمريكا استفادوا منها، وربما سرقوها أيضًا. المرض الرابع أن هذه النوعية من القادة والزعماء المعتمدين على تغذية مشاعر «الجماهير» يميلون إلى تجاوز المؤسسات والقوانين واللوائح والقواعد ابتداء من خطابهم السياسى وحتى ما يقترحونه من إجراءات.
هذه الأمراض مجتمعة سرعان ما ظهرت بعد وصول ترامب إلى البيت الأبيض. وفى حدود المعرفة فإن ترامب أصبح من أكثر الرؤساء الأمريكيين الذين جرى التأليف عنهم بينما هم فى السلطة، والأهم من قبل الذين عملوا معه مباشرة أو تواجدوا داخل البيت الأبيض. وبعد شهور قليلة من توليه السلطة نشر «مايكل وولف» كتابه «الحريق والغضب FIRE AND FURY فى داخل بيت ترامب الأبيض»، ولم يمض أكثر من عام عندما كتب الصحفى الأشهر فى التأريخ للرؤساء الأمريكيين «بوب وودورد» كتابه «الخوف FEAR ترامب فى البيت الأبيض»، وفى نفس العام ٢٠١٨ كان جيمس كومى، مدير مكتب التحقيق الفيدرالى، ٢٠١٣ إلى ٢٠١٧، قد نشر كتابه «الولاء الأعلى A HIGHER LOYALITY الحقيقة والأكاذيب والقيادة». وفيما ثبت بعد ذلك أنه ربما سوف يكون اتجاهًا داخل إدارة ترامب وهى خروج أفرادها وتأليف كتاب عنها يستند إلى وقائع شاهدوها بأنفسهم، وحدث ذلك عندما قامت «أمبروزا نيومان» بنشر كتابها بعد بقائها القصير فى البيت الأبيض «المختل UNHINGED نظرة من داخل البيت الأبيض». كثرت الكتب المختلفة عن الرئيس الأمريكى عندما اقتربت الانتخابات الرئاسية، حيث ظهر كتابان فى وقت واحد: أولهما من «مايكل كوهين» بعنوان «مذكرات خائن DISLOYAL، A MEMOIR القصة الحقيقية للمحامى الشخصى السابق للرئيس دونالد ترامب». وثانيهما كان الكتاب الثانى خلال أقل من عامين للصحفى فى واشنطن بوست «بوب وود ورود» بعنوان «الغضب RAGE» والذى استند فيه كما هى عادته إلى مقابلات كثيرة مع عاملين فى البيت الأبيض، كان من بينهم الرئيس دونالد ترامب ذاته الذى أعطاه تسع ساعات كاملة (متفرقة بالطبع) من وقته الثمين لكى يصدر فى كتاب يعلم الرئيس تمامًا أنه لن يكون فى صالحه؟!
أىٌّ من هذه الكتب لم تكن فى صالح الرئيس، وبشكل ما كانت تحط من قدره، ويبدو أنه إلى درجة ما كان مستمتعًا بها. ولم يكن ذلك لنقص فى الفطنة السياسية، وإنما ربما كانت لحكمته الخاصة أنها تعزز من موقفه داخل جمهور خاص، وقف معه طوال الحملة الانتخابية التى أوصلته إلى الرئاسة، وطوال فترة وجوده فى البيت الأبيض التى انتهت نهاية درامية أخرجته من سدة الرئاسة. لم يكن الخروج تقليديًا بأى معنى، فالرجل لم يستقبل الرئيس الجديد- جوزيف بايدن- ولا حضر كما تقضى التقاليد حفل قسمه فى الكونجرس، خرج وحيدًا إلى «مارا لاجو» موطنه البديل خلال فترة رئاسته. ولكن أخطر ما فعل الرئيس المغادر، كان شنه أكبر حملة عُرفت فى التاريخ الأمريكى بأن الانتخابات التى خسرها كانت مزورة وجرى العبث بها من قبل أعدائه، وبالتالى خلق طائفة غير مسبوقة، عُرفت بـ«المنكرين» أى الذين أنكروا شرعية الانتخابات.
ولكن ذلك لم يمنع دونالد ترامب من دخول الانتخابات مرة أخرى، وكان هو أول من أعلن ترشحه للمنصب مرة أخرى مبكرًا للغاية لكى يظل فى مقدمة استطلاعات الرأى العام مع كل المنافسين الجدد فى الحزب الجمهورى. لم يكن مفهومًا لماذا سوف يترشح الرئيس السابق لانتخابات أعلنها من قبل مزورة وزائفة، خاصة أنه لم يحدث لا فى وقت وجوده فى السلطة أو بعدها تعديلات تذكر فى قوانين وقواعد إجراء الانتخابات. وسط ذلك كله خرج إلى الرأى العام الأمريكى قرار هيئة محلفين فى دائرة مانهاتن القضائية بإدانته فى ٣٤ تهمة مختلفة.
الغريب أن هذه التهم المتنوعة، والتى سوف نتعرض لها فى مقال قادم، انزوت بعيدًا اللهم إلا من تهمة واحدة تتعلق بالغانية «ستيفانى كليفورد»، واسم شهرتها «ستورمى دانيال»- أى العاصفة دانيال- والتى يُدعى أن المتهم الرئيس عاشرها، ثم بعد ذلك دفع لها من خلال محاميه مايكل كوهين ١٣٠ ألف دولار للصمت بخصوص الموضوع من أموال الحملة الانتخابية. لم تكن التهمة وقوع المعاشرة مع غانية، ولا دفع الأموال لها لكى تسكت فى مخالفة لحرية التعبير، وإنما لأنه لا يجوز استخدام أموال المتبرعين للحملة فى أغراض خاصة!. أنكر الرئيس هذه التهمة كما أنكر التهم الأخرى!.