بقلم - عبد المنعم سعيد
شاءت الأقدار أن تكون حياتى واقعة في مثلث من العلاقات الفكرية بين «الأكاديمية» في العلوم السياسية في ناحية، والصحافة والإعلام في ناحية أخرى، والسياسة العملية في ناحية ثالثة.
هذه العوالم الثلاثة تتلامس مع عوالم أخرى فيها القانون بقدر ما فيها من الثقافة، والخبرة الكبيرة من السفر والحل والترحال بين بلاد قريبة وبعيدة، وفيها كلها خبرات ومعرفة. كل ذلك بالتأكيد أثر على الطريقة التي أفكر بها، والمنهج الذي أحكم به على تفكير الآخرين، الذين تزدحم بهم كل هذه الساحات؛ ومن ذلك أن أكثر ما يسبب الانزعاج تلك الطريقة التي نفكر بها عن مصر الوطن الذي يحبه الجميع ويتمنون له التقدم والرفعة.
الذائع في التفكير هو ذلك الميل الكبير إلى الانطباعية، والتعميم من حالات فردية إلى الوضع العام في مصر، فإذا ما ذبح رجل امرأة صار حديث الذبح كما لو كان القاعدة العامة وعنفًا أصيلًا ضد النساء، وإذا ما وصل «التوك توك» إلى الأحياء بات ذلك ما وصلت إليه الأحوال في مصر من تدهور، وإذا ما قُطعت شجرة لأغراض عامة أو خاصة أو باختصار لانعدام الذوق، باتت هناك حالة من اغتيال الخضرة، وسط أزمة المناخ ومشروعات مصر الخضراء. باختصار، هناك حالة عامة من التشاؤم في عالم المثلث المشار إليه آنفًا، والمتشائم لا توجد لديه مشكلة في الحديث عن «المنجزات» المصرية، التي «لا ينكرها إلا جاحد»، ولكنه سوف يعقبها بقائمة طويلة من الأمور السلبية، التي تنقل المستمعين من النور إلى الظلام دفعة واحدة.
مثل هذه الحالة تبقى دومًا على طبيعتها «اللفظية»، المُحمَّلة بدعوات الندم أو البكاء على ماضٍ كانت فيه الأمور ممتلئة بالفضائل. الماضى قد يكون بعيدًا إلى زمن الخلفاء الراشدين أو العصور الملكية أو الجمهورية الناصرية أو الساداتية، بما كان فيها من الساسة وأهل الكتابة وجماعة الغناء والفنون والموسيقى، الذين يرتقى جميعهم إلى زمن الأنبياء، بينما ما نشاهده الآن هو خلطة من السوقية والخيانة لكل ما هو نبيل.
الغائب دائمًا عن الإدراك هو ذلك التعقيد الشديد في الحالة المصرية، والذى يبدأ بالواقع الجغرافى والحقيقة الديموغرافية. صحيح أن للمصريين تاريخًا مشتركًا وهوية عامة وانسجامًا ثقافيًّا لا بأس به إذا ما أخذنا في الاعتبار خبرة شعوب أخرى. ولكن الحقيقة أيضًا أننا لا يمكننا فهم مصر والمصريين ما لم نعلم الطبيعة المركبة لأحوالهم. وحتى مطلع القرن الحالى، كان المعهد القومى للتخطيط يصدر مطبوعة مهمة عن «التنمية البشرية في مصر». كان التقرير مدعومًا، ويتم بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة للإنماء، ويقوم على الدراسة الوافية لمصر باعتبارها مركبًا من ٢٧ محافظة. وفى آخر التقارير التي قرأتها كان قد وصل التنوع إلى مستوى المراكز والأحياء. لا أدرى شخصيًّا ما إذا كان إصدار هذا التقرير لا يزال مستمرًّا أم لا، وإذا كان مستمرًّا فإن هناك خطأ كبيرًا من جانبى وأعتذر عنه، ولكن إذا لم يكن كذلك فإن الجماعة المصرية الفكرية سواء كانت في الأكاديميا أو السياسة أو الثقافة والإعلام تكون قد فقدت سلاحًا مهمًّا للتفكير.
فالحقيقة التي لا يمكن تجاهلها من التقارير الأولية، التي صدرت في سنوات القرن الماضى الأخيرة، أو تلك التي بدأت مع هذا القرن، أن مصر متنوعة من حيث التنمية البشرية والواقع الاجتماعى والاقتصادى. وبقدر من التعسف اللازم للتبسيط واحترام مساحة المقال، فإن مصر كانت تنقسم إلى خمس حزم من المحافظات بالنسبة للتقدم بصفة عامة مُعرَّفًا بنسبة الفقر والتعليم والصحة. الحزمة الأولى تشمل محافظات قناة السويس الثلاث- السويس والإسماعيلية وبورسعيد- ومعها محافظتا الدقهلية ودمياط. وهى محافظات متقدمة، ومعاييرها أقرب إلى المعايير السائدة في الدول النامية سريعة النمو في جنوب شرق آسيا؛ وربما لا تصل إلى سنغافورة أو كوريا الجنوبية، ولكنها أكثر المحافظات اقترابًا من الفلبين وتايلاند وإندونيسيا.
الحزمة الثانية تشمل معظم محافظات الصعيد جنوب الجيزة، وهذه تقترب كثيرًا من معدلات التقدم الإفريقية. الحزمة الثالثة تشمل باقى المحافظات، وتتراوح بين الحزمتين السابقتين. والحزمة الرابعة تشمل الحواضر الكبرى للقاهرة والإسكندرية والجيزة، وهذه يتفاوت فيها التقدم قرب المستويات الآسيوية أو التأخر وفق المستويات الإفريقية، حسب بُعدها أو اقترابها من المناطق الريفية. وخلال العقد الأخير، وردت حزمة خامسة تتشكل من مناطق العمران الجديدة على سواحل البحرين الأحمر والأبيض وخلجان سيناء والوادى الجديد.
هذا التقسيم الأولى يصلح تمامًا لكى نوقع عليه الظواهر الاقتصادية والاجتماعية المختلفة، وحتى السياسية أيضًا، حيث يوجد التعصب والتطرف والإرهاب ومحاولات التجديد الدينى والإصلاح الفكرى المدنى. باختصار، فإن الظواهر لا تبقى مُعلَّقة في سماء التعميم، الذي يصيب باليأس من ناحية، ويدفع في اتجاهات بعيدة عن إدراك من أين يأتى الخير والعلم والنماء وأين لا تزال هناك مساكن الشر والجهل والتخلف. مشروع «حياة كريمة»، الذي يركز على القرى المصرية في الحزم الخمس، سوف يعطينا المزيد من المعرفة الجغرافية والديموغرافية، التي تجعلنا أقرب إلى الحقيقة من أي وقت مضى وتعطينا تقييمًا أقرب إلى الصحة لتجارب العلاج وأقلها فاعلية وأكثرها نجاحًا في معالجة الأوضاع السلبية في المجتمع مع أخذ الأوضاع الطبقية في الاعتبار.
ولكن هذا التقسيم وحده ليس كافيًا لتشخيص الأمور المصرية، فهناك وسائل أخرى، تقع في مقدمتها المقارنة بالدول الأخرى، التي يمكنها أن تشكل «المرجعية» لعملية التنمية المصرية، من حيث التأكيد على ما هو إيجابى والكشف عما هو سلبى. ولا أجد مثالًا يقترب من ذلك قدر تلك الحالة من الفوران الكبير في دول شرق وجنوب شرق آسيا، التي دخلت عليها نوبات الاستعمار، والحروب العالمية، وكل حالات الفقر والوباء والمجاعة. الأمثلة اليابانية والصينية في التقدم وبناء الإنسان كثيرة، ولكن آخر ما لفت الأنظار قادمًا من المنطقة كان استعداد كوريا الجنوبية لاستعمار القمر. وظلت التجربة الفيتنامية حاضرة ومُلِحّة في الأذهان لفترة طويلة، ولكن ما هو مناسب هو دروس انتقال فيتنام من صفوف الدول النامية إلى قلب الدول البازغة؛ وعندما وصلت صادراتها إلى أكثر من ٢٦٤ مليار دولار سنويًّا فإن «التجربة النضالية» كانت في البناء والتعمير، وجنبًا إلى جنب مع بناء الإنسان الفيتنامى لكى يتناسب مع دولة عصرية ومتقدمة.
وضْع كل ذلك في دائرة البحث العلمى من خلال مراكز البحوث الاجتماعية المصرية داخل الجامعات أو خارجها، مع تشجيع إنشاء مراكز بحوث استطلاعات الرأى العام، يعطينا التوجه الصحيح نحو قياس الظواهر والقضايا المختلفة. وباختصار يكون ممكنًا فهم مصر، فقرها وغناها، وعلمها وجهلها، تقدمها وتأخرها؛ وأين يحدث هذا وذاك وفى ظل أي ظروف اجتماعية واقتصادية؟. هنا، تدريجيًّا، سوف تختفى نوبات التفاؤل والتشاؤم المتطرفة، ويحل محلها الاقتراب من الواقع المصرى، ليس كما نتمناه أو كما نتخيله أو يظهر لنا في الأحلام أو الكوابيس.