بقلم - عبد المنعم سعيد
نشرت في هذا المقام مقالا في ٣ أغسطس ٢٠٢٢ بعنوان: ثقافة السياحة، طرحت نقطتين مهمتين: الأولي منها أن السياحة مع الصادرات هما سبيلنا الأول والأكثر سرعة للاقتراب من أزمة موارد العملة الصعبة؛ والثانية أنه حتى يتحقق ذلك لابد من تغيير ثقافة السياحة في مصر إلى ما درجت عليه ثقافات دول أخري جعلت من هذه الصناعة سبيلا مهما إلي تدعيم الثروة القومية والناتج المحلي الإجمالي. خلال الفترة منذ نشر المقال، وربما كان هناك الكثير من توارد الخواطر، وكذلك الجهد العام لعبور الأزمة الاقتصادية المتولدة من توالي أزمات أخري مثل الجائحة والحرب الأوكرانية، أصبح الموضوع داخلا في أولويات الحكومة التي يجري الحديث عنها. أصبح الهدف المستهدف جلب ٣٠ مليون زائر سياحي إلى مصر؛ وهو هدف لا بأس به على ضوء الأوضاع الحالية للسياحة المصرية وما تردت إليه أحوالها، ولكنه لا يحقق المرغوب، وبصراحة لا يناسب الإمكانيات المتاحة. من يحتاج منا إلى استيعاب ما هو ممكن هو النظر إلي تجارب الدول الأخرى خاصة العربية القريبة والشقيقة؛ وربما نستبعد مؤقتا تجربة دبي ودولة الإمارات العربية المتحدة في عمومها وقطر أيضا، وإنما نقترب أكثر من التجربة السعودية التي لم يكن لديها حتي عام ٢٠١٥ ما يزيد علي السياحة الدينية المرتبطة بمواسم الحج والعمرة وهي تتعدي بضعة ملايين سنويا حسب الحصص المقررة للدول الإسلامية. فيما عدا ذلك كانت المملكة دولة مغرقة في محافظتها، وكان ما يشاع عن سلوكيات جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كافيا لتردد السائحين في القدوم إلى بلد صحراوي ينتشر فيه التشدد السلفي. الموقف من المرأة ومنعها من قيادة السيارات أرسلت إشارة سلبية للعالم يعتبر المرأة سبة أخلاقية ومصدرا من مصادر الفتنة. لم تكن الطفرة السائحية لدبي والإمارات وقطر في العموم بالكافية لكي تثير الحماس في اتجاه صناعة السياحة في مملكة مترامية الأطراف وذات موقع استراتيجي وغني بالتاريخ والجغرافيا المتنوعة القابلة لكثير من الأذواق والأمزجة الإنسانية. بشكل ما كانت هناك حالة من الاكتفاء السعودي بالثروة النفطية والاقتراب من الحرمين الشريفين يربطانها بكل أنحاء العالم، ولا تحتاج بعده لاتصال أو تواصل مع الآخرين.
تغير ذلك كله في حالة من الإصلاح العميق والشامل، والتفكير التقدمي، وتجسد في رؤية المملكة ٢٠٣٠؛ وبات واحدا من الأهداف الإستراتيجية الكبرى تنويع مصادر الدخل. ورغم أن هذا العنوان يحتوي على الكثير من الصناعة والزراعة والخدمات فإن السياحة لم تستثن من عملية التنويع هذه لأنها كانت عنوانا مهما لثورة في التفكير يقلب السعودية من دولة أمنية متوجسة على أمنها ومتخوفة على ميراثها التاريخي؛ إلي دولة لديها من الثقة بالنفس والقدرة علي فتح أبوابها إلى الدرجة التي تضع لنفسها هدفا يصل إلي ١٠٠ مليون سائح أي تناطح دولا سياحية عظمي مثل فرنسا وإسبانيا وإيطاليا والولايات المتحدة وبريطانيا. تظهر هذه الثقة، وفي التكنولوجيا المؤدية إليها، من المساحة الكبيرة عالم تأشيرات السفر الذي بات يشمل كل دول مجلس التعاون الخليجي، وكل من يأتي إليهم من الحاملين لجوازات السفر الأوروبية والأمريكية، ولكل الحاصلين على تأشيرات من عدد هائل من الدول. وجري تحرير الشباب السعودي، والمرأة السعودية، وإطلاقهم لكي يستثمروا ويشاركوا ويواجهوا العالم بلا خجل ولا تراجع. ظهر ذلك كله في الاهتمام الدولي بالسياحة السعودية حتى إن ٣٠ مليار دولار من الاستثمارات العالمية في قطاع السياحة باتت متاحة لاستغلال طاقات جبارة لم يتم استغلالها من قبل. وبشكل ما باتت السياحة نوعا من اكتشاف السعودية لنفسها جغرافيا وتاريخيا وديمغرافيا أيضا حينما جري توزيع الثروة السياحية على المناطق المختلفة فيما جري تسميته المواسم السعودية التي توزع السائحين بين موسم الشرقية، وموسم جدة،وموسم الطائف، وموسم الرياض؛ وباختصار لم تعد توجد منطقة في السعودية إلا وكان لها موسمها الخاص. الموسم هنا يمثل مجموعة كبيرة أو حزمة من الأنشطة السياحية والمهرجانات الثقافية والمسابقات الفنية التي تستفيد ليس فقط من الطاقات السعودية وإنما تلك العربية، وخاصة مصر، أيضا.
صناعة السياحة في عمومها مركب له طبيعة أمنية واجتماعية واقتصادية وسياسية متعددة الأبعاد، وهي المعرض أمام العالم الذي يصف بلدا وثقافته وعلمه عبر ما يشاهده بشر وينقلونه من ذكريات. نظريا فإن مصر من أغني دول العالم في كل ما تقدم لقدمها في الحداثة نسبيا عن باقي دول المنطقة، وفي اكتشافها لما تمتلك من امتدادات تاريخية عميقة ومؤثرة في التاريخ الإنساني. التنوع البيئي المصري بين الوادي والصحراء، وبين النهر والبحر، وفي الجزر وأشباه الجزر، والبحيرات العذبة والمالحة، وبين البحرين الأحمر والأبيض، والخليجين العقبة والسويس، يوجد ما يدهش ويمتع ويسعد. معضلتنا الكبرى متعددة الأبعاد الثقافية والفكرية أولا إزاء الآخر في عمومه في اعتباره غريبا يولد الخوف والحذر في عاداته وتقاليده؛ وثانيا إزاء طالب الاسترخاء والمتعة باعتباره غنيا مترفا؛ وثالثا أن علاقتنا مع تاريخنا وآثارنا منقطعة نفسيا باعتبارها أمرا يهم الغرباء ولا يخصنا كثيرا؛ ورابعا أن السياحة ليست سلعة اقتصادية يعتد بها أوتستحق ما تحققه في دول العالم من احترام وتقدير لأنها لا تقدم محصولا ولا تنتج سلعة. هناك ما هو أكثر ويحتاج ربما دراسات مفصلة، ولكن ذلك كان تحديدا ما كانت السعودية على استعداد لمواجهته في بيئة اجتماعية وسياسية أكثر تعقيدا، وعندما نقول السعودية فإن ذلك يعني السلطة السياسية والتنفيذية، والجماعات الإعلامية والثقافية، والعالمين بالصناعة وتعقيدها وعلاقاتها بالصناعات الأخرى. تحقيق ذلك ليس بكثير علينا وإذا كنا نجحنا في مجالات أخري فلماذا لا ننجح في هذا المجال الحيوي للاقتصاد عامة أيضا؟!.