توقيت القاهرة المحلي 10:17:57 آخر تحديث
  مصر اليوم -

بين الحكمة والحماقة!

  مصر اليوم -

بين الحكمة والحماقة

بقلم - عبد المنعم سعيد

نُعلم الطلاب أنه في العلاقات الدولية ثلاثة مستويات من التحليل: النظام الدولي، والدولة موضع العلاقة، والفرد القائد الذي عليه اتخاذ القرارات. العادة جرت أن كل مستوى ينفرد وحده بالمقال أو الكتاب أو الأطروحة، ولكن الواقع يشهد دائماً أن المستويات الثلاثة متداخلة. وعلى سبيل المثال، فإن الأزمة/ الحرب الأوكرانية نشبت من احتدام الحاجة إلى مراجعة النظام الدولي الذي ساد منذ نهاية الحرب الباردة، وسادته الولايات المتحدة. والمراجعة تطلب دائماً إعادة ترتيب القوى الدولية ومكانتها في اتخاذ القرارات العالمية، ولكن حتى يحدث ذلك، فلا بد من لحظة اختبار حارة يعجم فيها كل طرف عود الطرف أو الأطراف الأخرى، وهي أحياناً ما تكون لحظة حرب. طرفا الحرب الأساسيان حالياً هما روسيا وأوكرانيا، وهما وحدات حية من التجمع الإنساني لديها قدراتها المتنوعة من عسكرية إلى اقتصادية إلى ثقافية، وهكذا أمور تستخدم في مناوأة الطرف الآخر، وعلى تماسكها وصمودها ووطنيتها تتوقف نتيجة المواجهة. القيادات لدى البلدين ومعاونوها تمثل وحدة صنع القرار التي تدير الأزمة والحرب، وتبني التحالفات، وتتعرف على الأعداء، وهي التي تحدد أهداف الحرب الاستراتيجية والتكتيكية، وعلى خريطتها الذهنية يتوقف استمرار الصراع أو انتهاؤه، وقرارات الحرب والسلام. هذا المستوى من التحليل تتوقف على حكمته أو حماقته القدرة على اتخاذ القرارات المصيرية التي تقود إلى النصر أو الهزيمة، أو أنها تحافظ على الدولة وسلامتها الإقليمية. هي حلقة حاسمة، وهي التي تكتب كثيراً في كتب التاريخ، وتدور من حولها الملاحم والأساطير، والبطولة والزعامة في ناحية، والخيانة والانتحار في ناحية أخرى. وبينما يكون لمستوى النظام الدولي وطموحات الدولة أولوية تحليلية عند بداية الصراع والمواجهة، فإن القائد الفرد هو الذي يحسم الكثير من المواقف بقراراته التي تزداد أهميتها كلما كان الموقف حرجاً، والضباب فيه يكون كثيراً. وقد عرف التاريخ كثرة من الحكماء الذين عرفوا كيف يحققون أهدافهم من دون أن تزيغ أبصارهم بأن يطلبوا المزيد، وأكثر منهم من الحمقى الذين تصوروا أن لديهم حقاً تاريخياً أو قدرياً في الحصول على ما هو أكثر.
اللحظة الحالية من الأزمة/ الحرب الأوكرانية هي لحظة للحكمة بقدر ما فيها من زمن للحماقة. الرئيس بوتين كان بطلاً على الأقل وسط مواطنيه، ونال كثيراً من الإعجاب عندما طرح مع الصين الرغبة في مراجعة النظام الدولي، وعندما طالب أوكرانيا بعدم السماح لحلف «الأطلسي» بالاقتراب من الحدود الروسية. كانت الأسباب «الجيوسياسية» حاضرة، ووقتها كانت قوته العسكرية - والنووية خاصة - ملحوظة، ولكنه قرر أن يدفع الحظوظ بعيداً بمغامرة الدخول العسكري الفعلي إلى أوكرانيا، والمطالبة بنزع سلاحها، وتغيير نظامها، وضم الكثير من أراضيها. الخطأ يظهر عند القادة عموماً عندما يحاولون قضم ما لا يستطيعون ابتلاعه، وحدث هذا عندما لم يتعلم الرئيس بوتين من درس الانسحاب من العاصمة الأوكرانية، وتوجهه نحو حصار أوكرانيا من الجنوب والشرق، وعزلها عن البحر الأسود. الرئيس زيلينسكي في أوكرانيا أصبح منعوتاً بصفات تشرشل؛ لأنه راهن على شعبه ووطنيته واستعداده للتضحية؛ فلم يصمد فقط للهجوم الروسي على كييف ويدفعه بعيداً، وإنما نجح في جذب الغرب ناحيته، وتقديم مساعدات فارقة من خلال صموده وخطبه التي راح يجول بها في برلمانات البلدان الغربية؛ وفي النهاية كظم الكثير من الغيظ حتى بدأ هجوماً مضاداً استرد فيه خاركيف في شمال الشرق، وقضم مناطق لا بأس بها في الجنوب جعلت ثمن التمدد الروسي فادحاً. الآن يبدو أن زيلينسكي يريد قضم ما لن يستطيع ابتلاعه؛ عندما يطالب بالخروج الروسي الكامل من أوكرانيا جنوباً وشرقاً، ومن إقليم القرم أيضاً.
اللحظة الراهنة من الحرب الروسية - الأوكرانية هي لحظة للحكمة أو للحماقة، وتكون الحكمة عندما يقبل الطرف بالحد الأدنى من النصر، ويتجنب الحد الأقصى من الهزيمة. الرئيس بوتين لديه الآن وتحت سيطرته إقليم الدونباس الذي لديه فيه حجة لا بأس بها، وهي أن سكانه يتحدثون الروسية، ولهم ولاءات روسية، ولكن ما عدا ذلك سوف يعني استمرار الحرب التي يبدو أن دفتها انقلبت في غير صالحه، وفيها سوف يكون هناك نزيف هائل للقدرات العسكرية والاقتصادية. استمرار الحرب سوف يضغط كثيراً على الداخل الروسي، وساعتها سوف يكون المزيد من القهر في الداخل، وربما المغامرة بالاستخدام التكتيكي للأسلحة النووية. زيلينسكي حقق الكثير من المكاسب؛ فقد حافظ على جميع الأراضي التي يدين ولاء سكانها لأوكرانيا، وحقق انتصارات ملحوظة في مواجهة قوى عظمى عاتية، ويمكنه أن يحقق المزيد عند تحرير خيرسون، وبات لديه مقعد مضمون في الاتحاد الأوروبي. الإصرار بعد ذلك أن تنسحب روسيا من إقليم الدونباس غير المضمون الولاء، وإقليم القرم المتنازع عليه تاريخياً، هو تخطٍّ كبير للقدرات الأوكرانية، وسوف يسرع من حالة السخط في أوروبا على حرب لم يعد أحد على استعداد للمزيد من التضحيات في سبيلها.
وفي العصر الحديث، فإن العبور من الحماقة إلى الحكمة يحتاج الكثير من المساعدة الحكيمة التي تأتي عادة من أطراف ثالثة تحصل على الكثير من العون، سواء جاء من أطراف دولية أخرى، أو من حظوظ وأقدار. وفي الوقت الراهن، فإنه في جميع أشكال التصويت داخل مجلس الأمن، أو الجمعية العامة للأمم المتحدة، فإن الأغلبية انحازت - من الناحية الأخلاقية على الأقل - إلى جانب أوكرانيا، ولكن ذات الأغلبية صوّتت بطريقة أخرى عندما أبقت علاقاتها مع روسيا التي هي من الحجم والقدرة بحيث لا يمكن الاستغناء عنها ويبقى التوازن الدولي محفوظاً. وفي الأسابيع الأخيرة، تزايد الاقتناع العالمي بأن الحرب بالغة الضرر، ليس فقط لطرفيها، وإنما للعالم أجمع الذي بات يعاني من قسوة أزمات الطاقة والغذاء والتضخم وسلاسل التوريد... إلى آخر القائمة المعروفة. بات العالم مصرّاً، ليس على نصر روسيا أو أوكرانيا، وإنما وقف الحرب وكفى. وهنا تحديداً تأتي أطراف لها مصالح كبرى في هذه النتيجة، وفي نفس الوقت لديها أدوات الوساطة المؤسسية التي تستطيع استنفار الحكمة ووأد الحماقة. الصين والهند هنا أصبحتا الصف القائد للسخط العالمي على الحرب، وكلتاهما لها علاقات وصفقات تاريخية مع روسيا والغرب عموماً، ومن ثم أوكرانيا. تقدمهما إلى هذه المهمة سوف يكون شرفاً تاريخياً، وما تقدمانه يكون وقف إطلاق النار من ناحية، وطرح المناطق الأربع التي ضمتها روسيا إلى استفتاء الولاء مرة أخرى بين روسيا وأوكرانيا، على أن يكون ذلك تحت الإشراف الكامل للأمم المتحدة، ومنظمات عالمية أخرى. تفاصيل ذلك عديدة، وتحتاج إلى الكثير من المهارة التقنية، ومن الجائز أن ترفضها روسيا كلّيةً، انتظاراً لما سوف يفرزه قرار تعبئة 300 ألف جندي من نتائج ميدانية، ومن الجائز أن ترفضها أوكرانيا أيضاً؛ لأنها تعتقد أنها على أبواب النصر. ببساطة سوف تكون هناك مراهنة على الحماقة، والثمن الذي لا يمكن الحصول عليها إلا بثمن باهظ، لا يُظن أن العالم يتحمله، وبالتأكيد لا روسيا ولا أوكرانيا ولا الغرب كله.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بين الحكمة والحماقة بين الحكمة والحماقة



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمان ـ مصر اليوم

GMT 09:09 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب
  مصر اليوم - تجديد جذّري في إطلالات نجوى كرم يثير الجدل والإعجاب

GMT 08:58 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة
  مصر اليوم - وجهات سياحية فخّمة تجمع بين جمال الطبيعة والرفاهية المطلقة

GMT 08:53 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث متعددة الأغراض

GMT 23:13 2024 الثلاثاء ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل
  مصر اليوم - بايدن يعلن التوصل إلى إتفاق وقف النار بين لبنان وإسرائيل

GMT 09:29 2024 الأربعاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

طهران ترحب بوقف إطلاق النار في لبنان
  مصر اليوم - طهران ترحب بوقف إطلاق النار في لبنان

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 04:48 2019 الإثنين ,08 إبريل / نيسان

أصالة تحيى حفلا في السعودية للمرة الثانية

GMT 06:40 2018 الأحد ,23 كانون الأول / ديسمبر

محشي البصل على الطريقة السعودية

GMT 04:29 2018 الخميس ,15 تشرين الثاني / نوفمبر

روجينا تكشّف حقيقة مشاركتها في الجزء الثالث من "كلبش"

GMT 19:36 2018 الأحد ,22 إبريل / نيسان

تقنية الفيديو تنصف إيكاردي نجم إنتر ميلان

GMT 13:02 2018 الإثنين ,02 إبريل / نيسان

علماء يكشفون «حقائق مذهلة» عن السلاحف البحرية

GMT 20:26 2018 السبت ,31 آذار/ مارس

إيران توقف “تليجرام” لدواع أمنية

GMT 22:47 2018 الجمعة ,09 شباط / فبراير

مبابي يغيب عن نادي سان جيرمان حتى الكلاسيكو

GMT 21:12 2018 الأحد ,28 كانون الثاني / يناير

الزمالك يحصل على توقيع لاعب دجلة محمد شريف
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon