جرت فى الشرق الأوسط، وتعريفه هنا أنه يضم الدول العربية ودول الجوار الجغرافى غير العربية «إيران وتركيا وإسرائيل»، تفاعلات تاريخية صراعية وتنافسية وتعاونية من دول داخل الإقليم وأخرى خارجه.
مقالات متعلقة
إشكاليات العنف الأسرى
دفاع عن الفنون والإعلام
عام على الأزمة الأوكرانية
وآخر حلقات التاريخ الطويل للإقليم بدأت مع بدايات العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين، عندما نشبت هبات جماهيرية سُميت «الربيع العربى»، نتج عنها أولًا داخل الإقليم زيادة فى الحضور السياسى للجماعات السياسية الإسلامية، وثانيًا نشوب العديد من الحروب والصراعات السياسية فى الدول، وثالثًا حدوث خلل استراتيجى فى الإقليم سمح لدول الجوار بمد نفوذها، مع ظهور استقطاب حاد داخل الإقليم بين الدول التى ناصرت «الثورات» وتلك التى استنكرتها.
ورابعًا أنه لم ينتهِ العقد إلا وتراجع نفوذ الحركات الإسلامية، وتراجع الوجود الأمريكى فى المنطقة، وظهرت توجهات إصلاحية جذرية فى عدد من الدول العربية نجم عنها توجهها نحو التهدئة وتخفيض التوتر وتقديم التعاون على التنافس. وضمن هذا التوجه الأخير، جاءت أحداث الزلازل التى أصابت تركيا وسوريا، لكى تفتح الأبواب لفرص عديدة من المصالحات والتهدئة الإقليمية.
فاجعة الزلزال:
فى 6 فبراير 2023 ضرب زلزال بقوة 7.8 درجة تركيا وسوريا، وأعقبه آخر بعد ساعات بقوة 7.6 درجة، وكان واحدًا من أكثر الحوادث دموية من هذا النوع خلال عقد من الزمن، حيث ارتفع عدد القتلى فى تركيا إلى 29 ألفًا و605 أشخاص، وفقًا لإدارة الكوارث والطوارئ التركية حتى يوم 12 فبراير الجارى. أما فى سوريا فقد قُتل 5200 شخص.
وكذلك انهار ما يصل إلى 5775 مبنى، بما فى ذلك المنازل والمستشفيات والمدارس، مما ترك مئات الآلاف بلا مأوى. كما بلغ عدد المصابين جراء الزلزال أكثر من 80 ألفًا فى تركيا، وأكثر من 7 آلاف مصاب فى سوريا.
كما أعلنت منظمة الصحة العالمية، يوم 12 فبراير الجارى، أن عدد المتضررين جراء الزلزال بلغ نحو 26 مليون شخص، وهم 15 مليونًا فى تركيا و11 مليونًا فى سوريا. وأكثر من 5 ملايين من هؤلاء يعتبرون من بين الأكثر عُرضة للخطر، وبينهم نحو 350 ألف مسن، وأكثر من 1.4 مليون طفل. وتفيد تقديرات المنظمة بانهيار أكثر من 4 آلاف مبنى فى الزلزال، وبتعرّض نحو 15 مستشفى لأضرار جزئية أو كبيرة.
من جانبه، أعلن الرئيس التركى، رجب طيب أردوغان، حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر فى المقاطعات التركية العشر المنكوبة. وعلى الجانبين التركى والسورى كان الأشخاص الأكثر تضررًا هم من اللاجئين السوريين والنازحين داخليًا.
لقد عاش هؤلاء الأشخاص بالفعل فى حالة يُرثى لها للغاية، وهم يكافحون بشدة درجات حرارة الشتاء الباردة، فضلًا عن نقص الغذاء والوقود. والنتيجة من كل ذلك كانت تفوق الضرورات الإنسانية على المواقف السياسية القائمة، فى ظل اتجاهات المصالحة التى تشهدها منطقة الشرق الأوسط.
مساعدات عربية:
كان لوقوع الزلزال فى تركيا وسوريا صدى وتأثير كبير فى الدول العربية، الشعوب والحكومات معًا، حيث نجح الإعلام فى النقل الفورى للحادث ونتائجه المادية والإنسانية. وعلى الرغم من الألم الشديد الذى يمكن أن تسببه مثل هذه الوقائع، فإنها جاءت فى فترة زمنية تحسنت فيها العلاقات.
وقلت الشروط فى تفاعلات الدول، ومن ثم نتجت عنها حالة من الزخم الذى يسعى لتقديم المساعدة من قِبل الدول العربية إلى تركيا بالرغم من توترات سابقة، وإلى سوريا بالرغم من أنها لاتزال خارج النطاق العربى مُمثلًا فى الجامعة العربية.
وأصبحت الضرورات الإنسانية تفوق المواقف والتباينات السياسية، وتعمل فى ظل اتجاهات المصالحة الإقليمية التى تعيشها المنطقة بالفعل منذ بداية العقد الثالث من القرن الحالى.
وكانت الحكومات هى التى بادرت فورًا إلى تقديم المساعدة. ففى دولة الإمارات العربية المتحدة أمر صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة «حفظه الله»، بتقديم 100 مليون دولار لإغاثة المتضررين من الزلزال فى تركيا وسوريا. وتشمل المبادرة تقديم 50 مليون دولار للمتضررين من الزلزال من الشعب السورى، إضافة إلى 50 مليون دولار إلى المتضررين من الشعب التركى.
كما وجه سموه بإنشاء مستشفى ميدانى، وإرسال فريقى بحث وإنقاذ، إضافة إلى إمدادات إغاثية عاجلة إلى المتأثرين بالزلزال فى تركيا وسوريا، لتستفيد منها الأسر فى المناطق الأكثر تأثرًا.
ووجّه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبى، «رعاه الله»، بتقديم مساعدات إنسانية عاجلة للمتضررين فى سوريا بقيمة 50 مليون درهم، من خلال «مبادرات محمد بن راشد آل مكتوم العالمية».
كما أعلنت وزارة الدفاع الإماراتية، يوم 7 فبراير الجارى، وصول طائرتين تحملان مساعدات إنسانية إلى مطار دمشق، ضمن الجسر الجوى الهادف لمساعدة المتضررين من الزلزال الذى تعرضت له سوريا، وذلك فى إطار عملية «الفارس الشهم 2». وشملت هذه المساعدات الإنسانية فى المرحلة الأولى 12 طنًا من المواد الإغاثية، وعددًا من الخيم لإيواء 216 متضررًا.
كذلك، وجهت سمو الشيخة فاطمة بنت مبارك، رئيسة الاتحاد النسائى العام، بتقديم 50 مليون درهم لدعم حملة «جسور الخير» التى أطلقتها هيئة الهلال الأحمر الإماراتى لدعم الجهود الإنسانية والعمليات الإغاثية لصالح المتأثرين من الزلزال فى كل من سوريا وتركيا.
فى السياق ذاته، أمرت المملكة العربية السعودية بتسيير جسر جوى وتقديم مساعدات وتنظيم حملة شعبية عبر منصة «ساهم» لمساعدة ضحايا الزلزال فى سوريا وتركيا.
وانتقلت فرق الإنقاذ السعودية إلى مواقع الحدث بعد تدشين الجسر الجوى، ضمن حملة «عطاؤكم يخفف عنهم»، التى تبرع لها أكثر من مليون شخص، حتى مساء يوم 12 فبراير 2023. وأعلنت المملكة عن وصول حجم التبرعات للمتضررين من الزلزال إلى أكثر من 320 مليون ريال سعودى منذ أن انطلقت الحملة عبر منصة «ساهم».
وعلى هذا المنوال من المبادرات الحكومية والأهلية جرى تدفق المعونات من الكويت ومصر وقطر والجزائر وتونس والعراق والأردن والبحرين وسلطنة عُمان والسلطة الوطنية الفلسطينية، لتقديم المساعدات ويد العون لمتضررى الزلزال فى سوريا وتركيا.
الإقليمية الجديدة:
كان التغيير الموازى لحالة الانسحاب الأمريكية من الشرق الأوسط هو اتجاه دول المنطقة العربية نحو التصالح والتهدئة، وكان أصل التغيير كامنًا فيما عُرف ببيان قمة العُلا فى 5 يناير 2021، أثناء انعقاد قمة مجلس التعاون لدول الخليج العربية، والذى سعت إليه المملكة العربية السعودية، ووضع الأساس لانتهاء «الأزمة القطرية».
ومن ثم لم يعد هناك كثير من الخيارات إلا أن تأخذ دول الإقليم الأمور بيدها من خلال التعامل المباشر مع الدول الإقليمية غير العربية، إيران وتركيا وإسرائيل من ناحية، وتحسين العلاقات فيما بينها من ناحية أخرى.
وهكذا ظهرت حالة «الإقليمية الجديدة» التى تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وتقوم على نسج علاقات ومصالح يجرى إنضاجها على نار هادئة، وتكون مهمتها الاستجابة إلى مصالح قائمة ومتوقعة، وفى الوقت نفسه تخلق توازنات جديدة ليست فيها شعارات جوفاء، أو يقظة كبرى على فجر ليست له سابقة، وإنما يوجد فيها القوة مع الترويض والاستيعاب لقوى إقليمية وعالمية.
فهى نوع من «الصبر الاستراتيجى»، والقدرة على إقامة الجسور من دون تعجل أو هرولة، المُركب العربى فيها واضح، ولكنه ليس بالذى يستفز أو يخلق مخاوف، وإنما الذى يبادل ويوفق المصالح.
تعزيز المصالحات:
إن المأساة الإنسانية المروعة التى عصفت بكل من سوريا وتركيا، مثلت فرصة واضحة من أجل محاولة دفع عملية المصالحة الإقليمية التى تجرى فى المنطقة مع بقية العالم العربى، والتى تتقدم بالفعل.
فالبداية كانت عندما رحبت بعض دول المنطقة بالرئيس بشار الأسد وعودة العلاقات مع سوريا، وأخذ ذلك أشكالًا رسمية وغير رسمية. ففى مارس 2022، رحبت دولة الإمارات بالأسد فى أبوظبى.
وفى شهر يناير الماضى، ذكر الرئيس أردوغان أنه قد يلتقى الأسد قريبًا لإجراء محادثات سلام.
وقبيل وصول هذه المساعدات الإنسانية على خلفية الزلزال، تواصل قادة وملوك دول عربية عديدة مع الرئيسين السورى والتركى لإبداء تضامنهم فى المحنة التى تعرض لها شعبا البلدين. وتلقى بشار الأسد اتصالًا هو الأول من نوعه، أكد فيه الرئيس المصرى، عبدالفتاح السيسى، تضامن بلاده واستعدادها لتقديم كافة أوجه العون والمساعدة الإغاثية الممكنة.
كما تلقى الأسد اتصالًا من العاهل البحرينى، الملك حمد بن عيسى آل خليفة، هو الأول من نوعه منذ أكثر من عقد. ونقل وفد وزارى لبنانى مُكلف من رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتى، إلى الأسد استعداد لبنان لفتح مطاراته وموانئه لاستقبال مساعدات ترد إلى سوريا من أى دولة أو جهة.
كما تعهدت السعودية، التى قطعت علاقاتها مع نظام الأسد فى 2012، بتقديم مساعدات إلى مناطق متضررة تحت سيطرة القوات الحكومية.
ختامًا، وفرت كارثة الزلازل فى سوريا وتركيا سببًا إضافيًا لتدعيم اتجاهات المصالحة والتهدئة السارية فى منطقة الشرق الأوسط. وبينما صبَّ هذا الدعم فى تعميق اتجاهات جارية بالفعل بين الدول العربية وتركيا.
وكان أبرزها لقاء الرئيسين المصرى والتركى على هامش افتتاح كأس العالم لكرة القدم فى قطر، فإنها ربما قلصت الفجوة بين دمشق وبعض الدول العربية التى ترددت فى إعادة علاقاتها مع النظام السورى.
وأصبح لدى بشار الأسد فرصة كبيرة لتحويل هذه المأساة والتضامن الحاصل مع سوريا على المستوى السياسى إلى قناة واضحة ومفتوحة أمام مشاركة دبلوماسية مستدامة.