بقلم: عبد المنعم سعيد
الدستور المصرى وخطب رئيس الجمهورية والحديث الدائم فى المنتديات البرلمانية وفى «رؤية مصر ٢٠٣٠» وأصوات الأحزاب السياسية والمجتمع المدنى المعبر عن جماعات وروابط مختلفة، جميعها ترفع شعار أن ما نريده لمصر أن تكون دولة مدنية ديمقراطية حديثة. ومع ذلك وفى الواقع العملى وسلوكيات البشر وأعمدة الصحف وحتى فى التمثيليات التليفزيونية وفى القصص اليومى نجد ذلك التوتر ما بين الهدف الأسمى ومنابع مختلفة لشرعية التعامل فى الحياة السياسية والاجتماعية تبدأ من الدين ولكنها تنتهى بالتقاليد والقيم التى تأخذ الدين من أصوله إلى تفسيراته والاجتهادات التى جرت عليها فى عصور قديمة واستمرت معنا حتى وصل الإنسان إلى القمر. ما يجرى من تطاحن بالقول أو باليد تتطاير فيه ليس القوانين كما يليق بدولة مدنية، وإنما الفتاوى والاجتهادات السحيقة. وبينما يسير كل ذلك داخل الطبقة الوسطى فى المجتمع، فإن العامة الأقل حظا يهبطون بالأمر كله إلى الاعتماد الكلى على ما هو غيبى، أو يُظن أنه أصل الحكمة الإلهية، وينطبق ذلك على الحياة فيكون التسليم بديلا عن الاختيار، والاعتماد على قوى مجهولة وليس على النفس. «التواكل» فى أمور مصيرية مثل الإنجاب وقرار العمل والمضى فى الدراسة والعناية بالصحة، كلها تعتمد على تلك الحزمة من الاستسلام لأقدار مضنية. المدهش فى كل ذلك أن كثرة من الكتاب والمفكرين والعلماء يلقون اللوم فى ذلك على المؤسسات الدينية وعلى ممثليها فى أماكن العبادة، باعتبارهم المصدر الوحيد للفكر المؤثر على الجمهور العام. الحقيقة ليست كذلك، فمصادر التسليم والتقليد ليست واحدة فهى تأتى من الأسرة، ومن موالد أولياء الله الصالحين، وفى العقود الأخيرة من منظمات دينية سياسية تمارس نوعا من الهندسة الاجتماعية لمسار الحياة بين البشر والمواطنين. جماعة الإخوان المسلمين وما تفرع عنها وتخرج من حضانتها من جماعات وصلت حتى القاعدة و«داعش» جميعها عملت على تشكيل الخريطة الذهنية للإنسان بحيث تكون بسيطة للغاية تنحو إلى التأكيد على الماضى وليس المستقبل، والذى فى هذه الحالة يعنى الانتصار الكامل لما كان.
العالم الحديث لا يجعل ذلك سهلا، وفى أحيان يكون الهروب إلى مجتمعات أخرى نوعا من الحل، ولكن التعامل الأكثر ذيوعا مع مقتضيات الحياة المعاصرة كثيرا ما أدى إلى الازدواجية فى السلوك والنفاق الاجتماعى. ومثل ذلك ذائع بشدة فى مصر ويؤدى إلى نوع من السخط من الحداثيين الذين يرون أن الدولة المدنية تعنى المواطنة والحداثة، وهذه بدورها تجعل الحق فى التغيير والتجديد والرقى واضحا وظاهرا وناصعا ولا يوجد ما يفسده إلا انحراف عن العالم المعاصر. الحقيقة أكثر تعقيدا من ذلك لأن المدنية والحداثة ودولة المواطنة تقوم فى الأساس على انتصار العقل، ولا ينتصر العقل إلا بالعلم، ولا ينتصر العلم فى المجال العام إلا عندما يحقق الحجم الحرج من المعرفة العامة. المعنى هنا ليس فقط أن يتعلم المواطنون فقط، وإنما أن يكتسبوا المهارات العلمية التى تجعلهم يفهمون، وهم لن يكونوا كذلك إلا إذا تغيرت خرائطهم الذهنية فيكون الاختيار فائزا على التسليم، والإيمان بالقدرة على التغيير متفوقا على التواكل. معرفة أن كل أمر يتغير، وكل حياة تتطور، وأن الزمن يحمل معه الانتقال من البساطة إلى التعقيد، ومن الكم إلى النوع، ومن المسار الخطى لحركة التاريخ إلى مسارات مركبة أخرى.
«كيف يحدث ذلك» هو السؤال الكبير، وبينما يكون التعليم وانتشار العلم والمعرفة أولى الخطوات فإن وجود الجمعيات والجماعات المدنية هو الذى يجسد الحياة المدنية التى تأخذ بيد المجتمعات إلى خطوات فى الأمام. المجتمع الصناعى أكثر قدرة بكثير من المجتمع الزراعى، وهو أكثر قدرة على إقامة مجتمع حضرى يستند إلى تنظيمات وليس العائلة الممتدة، يقيم فى القرية أو حتى يأخذها معه إلى المدينة إذا ذهب إليها. التكنولوجيات الحديثة تصنع رقيا سريعا، حتى اللغات الأجنبية والتعرف على مجتمعات وتقاليد أخرى يوسعان من إطار الاختيار إلى اختيارات لا حد لها. هنا لا تضيع الثقافة والهوية الوطنية، وإنما توسع ما لديها من أوعية للتعبير والانتشار فى أشكال منتظمة ومستدامة وحديثة. وفى مصر فإن التوتر محتدم بين ما هو تقليدى وما هو حديث، والمعضلة تزيد عندما يتحول تبشير الحداثيين إلى صراخ وسخط وليس إلى حركات سياسية وروابط اجتماعية كثيرا ما تبدأ من خلال حلقات على «الواتس» ولا تنتهى بتنظيمات اجتماعية تقرأ الكتب، وإنما تصل إلى أحزاب سياسية. وفى فرصة كبيرة مثل مشروع «حياة كريمة» فإن الحياة المدنية تنتقل من مطاردة «ترييف» المدن إلى معاصرة الريف.