توقيت القاهرة المحلي 20:08:02 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الدولة الوطنية والإقليمية الجديدة

  مصر اليوم -

الدولة الوطنية والإقليمية الجديدة

بقلم - عبد المنعم سعيد

هناك إشكاليات عندما يجري التعامل باللغة العربية مع مفاهيم تولَّدت عن بيئات ثقافية مغايرة خصوصاً تلك التي نمت في القارة الأوروبية خلال القرنين الأخيرين.

على سبيل المثال فإن مفهوم «الدولة الوطنية» الذائع لدينا في العالم العربي يعكس مفهوم الدولة «القومية» أو Nation State، أي إنه يعبّر عن دولة واحدة حقيقية يوجد فيها شعب لديه هوية مشتركة، يعيش ضمن إطار جغرافي محدد ومعترف به. «القومية» في واقعنا العربي كانت دائماً تعني تجمع شعوب عربية في إطار سياسي واحد، وشكل آيديولوجية أحزاب سياسية مثل البعث والقوميين العرب والناصريين الذين نظروا دائماً في اتجاه «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة». الآن مضى أكثر من قرن منذ بدأ وجود «الدولة العربية»، وثلاثة أرباع قرن منذ دخلت هذه الدول إلى الحالة المستقلة، ونصف قرن منذ عمَّ الاستقلال الدول؛ ورغم أنها جميعاً ظلت تحافظ على رابطةٍ ما مع المجموع العربي من خلال العضوية المشتركة في جامعة الدول العربية؛ فإنها أخذت في بناء هوياتها الخاصة التي حافظت على رابطة من المساندة مع الدول العربية الأخرى. ولكن جرى في الاتجاه المضاد البحث عن هويات متعددة كانت لها أحياناً سمات عرقية أو مذهبية أو طائفية أو جهوية، وجدت أن لها في ذاتها هوية متميزة. «الدولة الوطنية» هنا كانت بمثابة العباءة التي تخلق الولاء للإقليم الجغرافي للدولة، وما كان لأراضيها وأهلها دور في تاريخ المنطقة القديم والحديث. ما سُمي الربيع العربي جاء في مطلع العقد الثاني من القرن الجاري ومثَّل حالة من الارتجاج الذي يحرك جزيئات المادة ويعيد ترتيبها من جديد حسب درجات الأصالة في كل عناصرها، وفي كل الأحوال يدخل بها إلى تاريخ جديد.

أولها كان مجموعة الدول العربية التي شهد بعض منها قليلاً من الاضطرابات في هوامشها، ولكنها صمدت في وجه العاصفة، وحينما تعرضت واحدة منها للغزو الخارجي لاستغلال الموقف، لم تتردد في استخدام القوة العسكرية؛ ومن بعده معاونة الآخرين في محنتهم.

وثانيها ربما كان نموذجاً مصرياً أصيلاً، فلم ينقسم الجيش عن الشعب، ولم يتفتت أي منهما، وبقيت الدولة بمؤسساتها قادرة على الوجود والاستمرار، وخلال عامين من الفوضى خرجت الدولة المصرية من الرماد كما يخرج الطائر الأسطوري من النار.

وثالثها أن العاصفة هزَّت الدولة من أصولها، وعلى مدى عقد من الزمان، وسواء كان في اليمن أو في سوريا، حيث جرت الحرب الأهلية. أو أن الجيش انقسم، وتحولت الدولة إلى ميليشيات، وإلى توجهات سياسية بين الشرق والغرب كما هو الحال في ليبيا، أو إلى أزمة سياسية مزمنة كما هو الحال في تونس.

ورابعها مجموعة الدول العربية التي جاءت في شكل موجة جديدة عند نهاية العقد في كلٍّ من السودان والعراق ولبنان والجزائر؛ وهذه رغم ندائها للدولة الوطنية، فإنها ذهبت في اتجاهات شتى، فبينما حاول العراق والجزائر التماسك مرة أخرى بفضل الثروة النفطية، فإنها انتهت إلى ما هو معلوم من انقسام وتفتيت في لبنان والسودان مع فارق بينهما أن الأول لا يزال يقاوم الحرب الأهلية، بينما الثاني وإن لم يصل إليها بعد، فإنه وضع شكوكاً على أهم شروط الدولة، وهي أن تكون صاحبة حق الاحتكار الشرعي للقوة المسلحة واستخداماتها.

هذه الصورة من الدول العربية «الوطنية» متعددة الأشكال لا تختلف كثيراً عمّا جرى في أوروبا خلال القرن السابع عشر، وما جرى في مناطق أخرى من العالم خلال القرون الثلاثة الفاصلة بين معاهدة ويستفاليا في عام 1648 ونهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945. لقد كان أهم ملامح هذه المرحلة من تاريخ الدنيا هي ظهور «الدولة القومية» أي الكيان السياسي الذي يربط بين أفراده من خلال مجموعة من التجارب التاريخية والعاطفية الدينية، أو حتى بمحض الوجود في المكان الجغرافي الواحد. لقد كان هذا الكيان متجاوزاً للقبيلة والطائفة الدينية أو العرقية ومؤكداً «الهوية» المتولدة من التفاعل الاقتصادي والسياسي الذي ولَّد ما هو أكبر من مجرد المصلحة المشتركة. وبينما كانت القصائد والملاحم تشدو بجماعة دينية أو عِرقية أصبحت الأشعار الحماسية تشيد بالشعوب والأمم؛ وكان الاعتراف «الدولي» بالدولة هو في حقيقته اعترافاً بوجود شعب متميز له «هوية» مختلفة عن باقي «الهويات الأخرى». وكانت معاهدة ويستفاليا في جوهرها تأكيداً على أن «الهوية» الوطنية تعلو هويات فرعية أخرى لم يعد من حقها أن يكون لها صفات عابرة للقومية. ورغم أن ذلك خلق بالضرورة مشكلة «الأقليات» فإن الحدود الجغرافية والسيادة الوطنية خلقت هوية من خلال عمليات للانصهار الطوعي أو العنيف في تجربة شعورية واحدة.

بالطبع، لا توجد نية هنا للمطالبة باستعادة التجربة الأوروبية في الإطار العربي، فالتاريخ لا يعيد نفسه، ولا الجغرافيا ينبغي لها أن تكون قابلة للتعديل، وهذا هو جوهر الفكرة الإقليمية بينما تواجه آخر التجارب العربية الدامية في السودان، وفشلها المزمن كما هو حادث في فلسطين التي انقسمت كما لم ينقسم بلد عربي آخر حتى قبل قيام الدولة. هنا فإن مصالح الإصلاح الشامل في الدول الناجية من الربيع المزعوم في المثالين الأول والثاني بفعل قيادتها وأصالتها كدول تستدعي نوعاً من «ويستفاليا عربية» تحمي فيها الدولة الوطنية نفسها بالتعامل مع الأزمات القائمة، وآخرها الأزمة السودانية، من منطلق أن تكون الدولة الوطنية التي تعني «السيادة» والاحتكار الشرعي لاستخدام السلاح هي المسعى والهدف. التنمية المستدامة النابعة من مشروع وطني شامل تكون هي السبيل، وساعتها سوف تكون «الإقليمية الجديدة» قد وُلدت في المنطقة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الدولة الوطنية والإقليمية الجديدة الدولة الوطنية والإقليمية الجديدة



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

هيفاء وهبي بإطلالات متنوعة ومبدعة تخطف الأنظار

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:01 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

ختام فعاليات أسبوع الموضة في الرياض 2024
  مصر اليوم - ختام فعاليات أسبوع الموضة في الرياض 2024

GMT 09:36 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

البرتغال وجهة سياحية جاذبة لعشاق الطبيعة على مدار العام
  مصر اليوم - البرتغال وجهة سياحية جاذبة لعشاق الطبيعة على مدار العام

GMT 09:49 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

طرق العناية بالأجهزة الإلكترونية في المنزل
  مصر اليوم - طرق العناية بالأجهزة الإلكترونية في المنزل

GMT 19:11 2024 الخميس ,24 تشرين الأول / أكتوبر

أحمد السقا يكشف عن مواهب أولاده
  مصر اليوم - أحمد السقا يكشف عن مواهب أولاده

GMT 07:26 2024 الخميس ,24 تشرين الأول / أكتوبر

بوريل يدعو لإجراء تحقيق شامل حول انتهاكات إنسانية في غزة
  مصر اليوم - بوريل يدعو لإجراء تحقيق شامل حول انتهاكات إنسانية في غزة

GMT 01:41 2024 السبت ,19 تشرين الأول / أكتوبر

دار الأوبرا في سيدني تتألق ترحيبا بالملك تشارلز

GMT 13:10 2024 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

نقوش تكشف أسرارا جديدة عن المصريين القدماء في معبد إسنا

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 02:25 2018 الأربعاء ,04 إبريل / نيسان

اتحاد كتاب مصر ينعي الروائي أحمد خالد توفيق

GMT 07:04 2018 الثلاثاء ,27 شباط / فبراير

أشرف عبد الباقي يستعد لافتتاح "مسرح مصر للأطفال"

GMT 03:24 2018 الجمعة ,02 شباط / فبراير

ريتا حرب تتألّق في جلسة تصوير حديثة

GMT 12:17 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

الزمالك يطالب الجبلاية بنقل مباراة المصري لملعب القاهرة

GMT 05:02 2018 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

طفل ثالث لكيم كارداشيان من أم بديلة

GMT 03:44 2017 الإثنين ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

تعرف على أسعار الذهب في الأسواق المصرية الإثنين

GMT 18:47 2013 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

كولينز أنيقة ومثيرة في بلوزة شفافة وملابس جلدية

GMT 21:06 2015 الأربعاء ,16 أيلول / سبتمبر

النجم المصري محمد صلاح يقود هجوم روما أمام برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon